vendredi 30 mai 2014

الفصل الرابع: الأعمار والأرزاق والأعمال الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة د محمد ديب شحرور

 

 

 

الفصل الرابع: الأعمار والأرزاق والأعمال

لقد ظن الكثير أن عمر الإنسان ورزقه وعمله مكتوب عليه سلفا، والمكتوب جاءت بمعنى المقدر عليه سلفا، وبذلك يصبح الإنسان فاقد الإرادة والخيار له في أعماله وأرزاقه ويصبح الطب والعلاج والعمليات الجراحية بدون معنى وكذلك يصبح دعاء الإنسان لله تعالى ضربا من ضروب العبث واللهو.
أما رأي القرآن فهو غير ذلك، ففي بحثنا عن القرآن والكتاب عرفنا أن فعل “كتب” تعني تجميع الأشياء بعضها إلى بعض لإخراج موضوع معين محدد. ومن هنا جاءت كلمة الكتاب وهو مجموعة المواضيع التي جاءت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وحيا، والتي جمع فيها نبوته ورسالته معاً.
فعندما تأتي لفظة “كتاب” في مواضيع أم الكتاب كقوله: {كتب عليكم الصيام} (البقرة 183). فهذا يعني أن الصوم هو أحد المواضيع التعبدية التي فرضها الله عليكم كما فرضها على الذين من قبلكم، وقوله: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} (النساء 103) أي أن الصلاة هي أحد المواضيع التعبدية التي تؤدي في أوقات محددة سلفا، وهي (أي هذا الكتاب “الموضوع التعبدي”) مؤلف من عناصر الطهارة والوضوء والقيام والركوع والسجود…الخ أي أن مجموعة هذه المواضيع بعضها مع بعض تؤلف كتاب الصلاة.
أما عندما تأتي لفظة “كتاب” في القرآن فهي تعني مجموعة الشروط الموضوعية التي إذا اجتمعت بعضها مع بعض يخرج منها ظاهرة موضوعية ما.
هكذا يجب أن نفهم كلمة “كتاب” عندما تأتي في القرآن، فمثلا كتاب الموت هو مجموعة الشروط الموضوعية بحيث إذا اجتمعت بعضها مع بعض “كتبت” وقع الموت لا محالة. وكذلك كتاب النصر وهو مجموعة الشروط الموضوعية التي إذا اجتمعت بعضها مع بعض وقع النصر، وكذلك كتاب الهزيمة.
وعندما حاضت عائشة رضي الله عنها عند خروجها مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم “مالك أنفست؟ قالت: نعم. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم”. هنا سمى الدورة الشهرية للمرأة كتابا أي هو إحدى الظواهر الطبيعية للمرأة. وإذا أردنا أن ندرس كتاب الحيض فعلينا أن نراجع الطب النسائي لمعرفة تفاصيل هذا الكتاب.
إن علاقة الإنسان بكتب الطبيعة والتي هي “القدر” هي علاقة دراسة ومعرفة، فكلما زادت معلومات الإنسان عن كتاب الموت استطاع أن يؤجل وقوعه ولكنه لا يلغيه. بعد هذه المقدمة لندخل إلى صلب البحث:
الفرع الأول: الأعمار:
لنقارن بين الآيتين التاليتين:
  1. {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين} (آل عمران 145).
  2. {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} (النساء 103).
الآية الأولى في آل عمران هي من القرآن “نبوة” أما الآية الثانية من سورة النساء فهي من أم الكتاب “رسالة” وقلنا إن النبوة فيها قوانين القدر، والرسالة فيها القضاء الإنساني. فعندما قال إن الموت كتاب مؤجل أي إن كتاب الموت هو مجموعة الشروط الموضوعية التي تؤدي إلى الموت، وإن الموت مؤجل حتى تتحقق شروط هذا الكتاب. وعندما يدرس الإنسان كتاب الموت وتزيد معرفته به يستطيع أن يؤجل هذه الشروط ويطيل الأعمار.
فمثلا عندما تقدم طب الأطفال والنظافة العامة، خفت وفيات الأطفال بشكل ملحوظ وألغيت بعض الأمراض السارية. وعندما تقدم طب القلب والعمليات الجراحية أصبحت فرص النجاة من أمراض كانت سابقا لا أمل من النجاة منها كثيرة، وهذا ما أدى إلى ارتفاع متوسط الأعمار في هذا المضمار، فكلما زاد تقدم البلد في الطب وفي النظافة وفي تطبيق قواعد السلامة في العمل وفي الحياة العامة، ارتفع متوسط الأعمار فيه، لذا قال عن الموت {كتابا مؤجلا}. أما إذا اجتمعت الشروط الموضوعية التي تؤدي إلى الموت فالأجل لا محالة حاصل، ولذلك قال: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}(الأعراف 34).
ولكنه ربط أي أجل بكتاب بقوله: {لكل أجل كتاب} (الرعد 38) أي أن الواقع الحتمي لأي حدث “أجله” لابد أن يسبقه كتاب هذا الحدث وهو مجموعة الشروط الموضوعية التي تؤدي حتما إليه والتي تخضع للدراسة من قبل الإنسان فكلما زادت معرفة الإنسان بالكتب الطبيعية زادت إمكانيته لتسخيرها لمصلحته والمناورة بها وقد خبرنا الله سبحانه وتعالى أن كل شيء له كتاب بقوله: {وكل شيء أحصيناه كتابا} (النبأ 29)
. أما الآية الثانية من سورة النساء فهي من أم الكتاب وهي من قضاء الإنسان لذا قال عنها أي الصلاة هي من المواضيع التي تؤدي في أوقاتها المحددة والمعروفة سلفا. لذا فإن كتاب الصلاة هو من أم الكتاب وكتاب الموت هو من القرآن فالأول كتاب قضاء والثاني كتاب قدر.
من هذا المنطلق نفهم أن أعمار الإنسان غير ثابتة. بل متغيرة لقوله: {كتابا مؤجلا}. وجاء هذا البلاغ بشكل صريح في قوله تعالى: {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير} (فاطر 11). لاحظ في هذه الآية كيف صرح أن نقصان العمر أو زيادته لا تكون إلا في كتاب، أي أن هناك مجموعة ما لشروط الموضوعية تؤدي إلى نقصان العمر أو زيادته لا تكون إلا في كتاب، أي أن هناك مجموع من الشروط الموضوعية تؤدي إلى نقصان الأعمار، وأخرى تؤدي إلى زيادتها، وما اختصاص علم الطب إلا في هذه الكتب، وإن الأموال المصروفة على الأبحاث الطبية في العالم لا تصرف هدرا وبدون فائدة لأن هذه الأموال تصرف على البحث في شروط طول العمر وقصره.
أما ما جاء من اللف والدوران في بعض كتب التفسير بأن الضمير في “ينقص من عمره” تعود على شخص آخر فهذا ما لا تحتمله اللغة لأنه لو كان يريد ذلك لقال “ولا ينقص من عمر آخر” ولكن الفكرة المسبقة عن الأعمار وأنها ثابتة أدت إلى هذا المخرج الساذج.
لقد آن لنا نحن المسلمين أن نفهم أن الأعمار غير ثابتة، وآن لأطبائنا أن يفهموا أن الأعمار غير ثابتة ويتحملوا مسؤولياتهم الكاملة تجاه المرضى، وآن للمسؤولين في البلاد العربية والإسلامية أن يفهموا ذلك ويتحملوا مسؤولياتهم تجاه حياة الناس في دولهم.
إن عدم ثبات الأعمار يوضح لنا لماذا كانت عقوبة القاتل هي القتل، لأن القاتل قد نقص من عمر المقتول فكانت عقوبته إنقاص عمره. وإن عدم ثبات الأعمار يوضح لنا لماذا أعز الله الشهيد وأعطاه المرتبة العالية، لأنه تبرع بأغلى ما عنده وهو الحياة، ولأنه وافق طوعاً على إنقاص عمره في سبيل الله.
وهذا أيضا يبين لنا لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم من أحرص الناس على حياة أصحابه وعلى حياة العرب وكان يعدهم بأجر الشهادة عند الله، ولكنه لم يأمر أحدا منهم بأن يذهب في مهمة انتحارية لقتل نفسه، ونرى هذا أيضاً في تحريم الله تعالى للانتحار بأمره {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء 29). ونرى أيضا كيف أجل الهلاك على قوم يونس بقوله: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي. في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} (يونس 98).
لنشرح الآن قوله تعالى في الآيات التالية:
{قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} (التوبة 51). إن هذه الآية تفهم في ضوء قوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه كتابا} (النبأ 29). هذا يعني أن كل شيء في الطبيعة عبارة عن شروط مجتمعة بعضها مع بعض “كتب”. فلا يمكن لأي إنسان أن يصيبه شيء غلا من خلال هذه الكتب. فإذا مرض فإنه لن يمرض إلا بمرض من الأمراض الموجودة في الطبيعة والموجودة ضمن الشروط التي يعيشها، أي تنطبق عليه، لذا وضع {لن يصيبنا}. جمعا ولم يضعها مفردة. {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسهم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} (الحديد 22).
- {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} (الحديد 23). في هاتين الآيتين يتبين أن كل المصائب التي تحصل في الأرض من زراعة وأملاك وهلاك دول وقيامها والزلازل والمصائب التي تحصل في الأنفس لا تكون إلا في كتاب، أي من خلال الشروط الموضوعية الموجودة فعلا.
ففي حالة الهزيمة مثلا، فهذا يعني ن هناك شروطا موضوعية وجدت نتج عنها الهزيمة “كتاب الهزيمة”، وفي حال النصر يعني وجود شروط موضوعية اجتمعت مع بعضها أدت إلى النصر “كتاب النصر”. وبالتالي فيجب على المنتصر أن لا يفرح بنصره، وعلى المهزوم أن لا ييأس من هزيمته بحيث إذا درسا كتاب النصر وكتاب الهزيمة فيمكن أن يتبادلا الأدوار، فالمنتصر يمكن أن يهزم والمهزوم يمكن أن ينتصر لذا قال: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة ومثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد… إلى أخر الحديث” “انظر صحيح مسلم ج4 ص 2036″ إن قول النبي هذا يبين لنا الأمور التالية:
1 – إن الروح ليس لها علاقة بالحياة لأن لملك عندما ينفخ الروح في الجنين وهو كائن حي، فالحيوان المنوي كائن حي والبويضة كذلك وبعد اللقاح يحصل التكاثر، وهذه كلها ظواهر كائن حي، أما الروح فهي شيء آخر تماما وليست سر الحياة، كما سبق لنا أن بينا.
2 – بعد أن يتحول الكائن البشري في الرحم إلى كائن إنسان يبدأ التسجيل عليه في ثلاثة فروع:
أ‌ – تسجيل الحياة العضوية أثناء الحياة “تجميع وهذا يعني يكتب”.
ب‌ – تسجيل الأعمال حين وقوعها.
ج – تسجيل الأرزاق حين وقوعها.
وبعد أن يموت ينتهي عمره ورزقه وعمله فيمكن أن يعمل له كشف بأعماله فتظهر نتيجة ذلك الكشف بأنه شقي أم سعيد.
إن هذا الحديث متطابق تماما مع النص القرآني، فقد بينا أن الروح في النص القرآني ليست سر الحياة، وأن أعمال الإنسان في النص القرآني إنما تسجل عليه حين وقوعها لا قبل وقوعها وذلك واضح في قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية 29). وقوله تعالى: {كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون} (الانفطار 11 و12) فنحن نعلم أن النسخ لا يكون إلا من أصل، فأصل الأعمال هو أعمالنا نحن، أي النسخة الأصلية لأعمالنا هي أعمالنا حين وقوعها وحين نقوم بها يؤخذ نسخة عنها “صوت وصورة” لذا قال: {ينطق عليكم بالحق).
لقد فهم كثير من الناس هذا الحديث فهما معاكسا تماما حيث ظنوا أن الجنين في بطن أمه يكتب عليه سلفا عمره ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. لقد أخطأوا هنا بفهم كلمة “كتب”. وقد أكدت الآيات التالية أن الأساس هو أعمالنا والله ينسخها ويجمعها لنا حين وقوعها وذلك في قوله تعالى: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون} (الأنبياء 94). وقوله: {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} (يونس 21). وقوله: {كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا} (مريم 79). هنا لاحظ قوله: (له كاتبون، سنكتب، يكتبون) كلها للدلالة على أن أساس الأعمال هو نحن وتسجل علينا وتجمع وتصنف حين وقوعها.
الفرع الثاني: الأرزاق:
{وفي السماء رزقكم وما توعدون} (الذاريات 22).
{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف 31).
{أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون} (الزخرف 32).
لقد ظن الكثير أن أرزاق الناس محددة سلفا. هذا صحيح إذا فمناها على معنى الجمع الكلي الاحتمالي وغير صحيح إذا فهمناها على معنى الإفراد. فإذا فهمناها على معنى الجمع فهذا يعني أن أرزاق الناس لا تأتي إلا من خيرات الطبيعة ومن العمل هذان هما المصدران الوحيدان للرزق لقوله: {ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون} (يس 35). هنا “ما” اسم موصول بمعنى الذي، أي والذي عملته أيديهم.
أما خيرات الطبيعة من طعام وشراب وأنعام فأساسها الماء لذا سمي ماء المطر “الرزق” لقوله تعالى: {واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله منا لسماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون} (الجاثية 5). لاحظ كيف سمى الماء من السماء رزقا، أما قوله:
{وما توعدون}. بمعنى والذي توعدون، فإن كل وعود رب العالمين تأتي من السماء لقوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} (السجدة 5).
أما قوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا…الآية}. فهذه الآية تعطينا قواعد التنظيم الاجتماعي المتحضر بأن الناس تمارس عملا واحدا في معاشها فهناك مجال الزراعة وهناك مجال الصناعة وهناك مجال الخدمات، كل هذه الأعمال هي مجالا لحياة ولا خروج عنها لذا قال: {قسمنا بينهم معيشتهم}. وهنا جاء مفهوم التسخير: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا}. فالذي يزرع مسخر لإطعام الذي يعمل في المصانع والطبيب مسخر لكي يعالج العامل والفلاح، والعامل مسخر لكي ينتج للفلاح والطبيب، والمعلم مسخر لكي يعلم أبناء هؤلاء… وهكذا دواليك حيث لا يمكن لأي تجمع حضاري متقدم أن يعيش إلا على أساس تخصص المهن وطرق المعاش بحيث أن كل صاحب عمل مسخر لخدمة الباقين، وقد أكدنا أن التسخير لا يكون دون مقابل أي أن السخرة هي عمل له مقابل لذا قال: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا}.
أي أن هذه الآية ليس لها علاقة بالتحديد المسبق لأرزاق الأفراد كل على حدة. أما التحديد المسبق للرزق فهو الطبيعة وخيراتها وعمل الإنسان ثم إنه في عمل الإنسان هناك القسمة في المهن بين الناس التي تعتبر قانونا لا مناص منه.
أما قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا…الآية} (الطلاق 2)، {ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} (الطلاق 3). فعلينا هنا أن نعرف التقوى أولا، فالتقوى الاجتماعية هي اتباع وصايا أم الكتاب حصرا. {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون} (الأنعام 153).
هذه هي الوصية العاشرة في الفرقان. فعندما يتبع الإنسان الوصايا فإن الله يسهل له عمله ورزقه ولكن هذا التسهيل لا يكون إلا من خلال الكتب أي من خلال الشروط الموضوعية التي يعيشها هذا الإنسان لا من خراجها أي من خلال المقدرات الموجودة فعلا، لذا أنهى الآية بأهم شرط بقوله {قد جعل الله لكل شيء قدرا}. فإذا أراد الله أن يرزق إنسانا يعمل في حقل الهندسة المدنية “كتاب الهندسة” فلا يرزقه من حقول القمح والبطاطا إلا إذا غير مهنته إلى حقل الزراعة “كتاب الزراعة”. أي عندما يريد الله سبحانه وتعالى أن يرزق إنسانا ما يجعل كل الظروف الموضوعية التي يعيشها تعمل لصالحه. والله أعلم.
الفرع الثالث: الأعمال:
ما هي الأعمال؟ وهل أعمال الإنسان مقدرة عليه سلفا؟ وما هو المقدر عليه سلفا من أعماله؟ وما هو الشيء المفتوح؟ قبل أن نخوض في هذا البحث علينا أن نعرف المصطلحات التالية:
“العمل”، “الفعل”، “الصنع”، “الكسب”:
- العمل: هو حركة واعية يقوم بها الإنسان على وجه العموم (WORK).
- الفعل: هو عمل معرف محدد (do) فنقول “ضرب” فعل ماض أي عمل معرف بالضرب، و”أكل” فعل ماض أي عمل معرف بالأكل، ولا نقول عمل ماض. فإذا أخذنا كل آيات الكتاب المذكور فيها “فعل وعمل” رأيناها لا تخرج عن هذين المعنيين. فالله سبحانه وتعالى يعلم ماذا يفعل فقال: {فعال لما يريد} (البروج 16). ولم يقل عمال لما يريد.
وعندما تسجل الملائكة أعمال الإنسان فإنها تعلمها وتسجلها لذا قال: {كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون} (الانفطار 11، 12). وعندما كسر إبراهيم الأصنام وجاء قومه يسألونه عمن كسرها: {قالوا من فعل هذا بآلهتنا} (الأنبياء 59). كانوا يسألون عن الكسر فأجابهم إبراهيم: {بل فعله كبيرهم} (الأنبياء 63). أي كسره. وعندما رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ابنه: {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك} (الصافات 102). فأجابه ابنه قائلا: {قال يا أبت افعل ما تؤمر} (الصافات 102). هنا قال “افعل” أي اذبح.
وعندما أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة 67). هنا قال: {وإن لم تفعل}. أي لم تبلغ.
وعندما قال: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} (الأنعام 112). هنا جاء قوله: {ولو شاء ربك ما فعلوه}. تعليقاً على قوله: {يوحي بعضهم إلى بعض}. وعندما قال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} (البقرة 278، 279) هنا قال: {فإن لم تفعلوا}. أي لم تذروا ما بقي من الربا، أي جاءت لشيء محدد معرف.
وبما أن الله يعلم أفعال الإنسان تحديدا عندما يقوم بها فقد قال: {إن الله يعلم ما تفعلون} (النحل 91). هنا جاءت معرفة الله بأفعال الإنسان بصفتين: الصفة الأولى وهي إثبات المعرفة بقوله: {إن الله يعلم ما تفعلون}. والثانية نفيا لجهل بقوله: {وما ربك بغافل عما تعملون} (النمل 93) ولو قال “ليس الله بغافل عما تفعلون” فالفعل أصلا معرف محدد فلا داعي أن يقول ليس بغافل ولا تأتي الصفة قبلها إلا بصيغة يعلم. وبما أن العمل منكر أي على وجه العموم لا التحديد جاءت الصيغة قبله بنفي الجهل بقوله تعالى: {ليس بغافل} ولا نجد في الكتاب أبدا صيغة “وليس الله بغافل عما تفعلون”.
أما قوله: {إنه خبير بما تفعلون} (النمل 88). فالخبرة تسبقها معرفة، أي أن الخبرة معرفة وممارسة معا لذا نقول إن الله عليم خبير. ولا نجد في الكتاب أبدا صيغة “إن الله يعمل ما يشاء” بل نجد صيغة {إن الله يفعل ما يريد} (الحج 14)، وصيغة {ويفعل الله ما يشاء} (إبراهيم 27) لأن إرادة الله وأفعاله كلها معرفة له. فعندما قال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كان لهم جنات الفردوس نزلا} (الكهف 107) لم يحدد ما هي الصالحات، قالها على وجه العموم لأن الصالحات متغيرة مع تغير الزمن، وعندما قال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة 7، 8) قالها على وجه العموم لأنه لو قال “ومن يفعل مثقال ذرة خيرا يره” لقالت له العرب ما هو الفعل الذي إذا فعلناه لكان مثقال ذرة من الخير أي لوجب عليه تعريفه تحديدا.
ولو قال “إن الذين آمنوا وفعلوا الصالحات” لأتبعها بتحديد الصالحات حصرا، أو لسأله العرب ما هي هذه الصالحات؟ ومثال على ذلك قوله: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}. إذ أتبعها مباشرة بتحديد هذا الفعل بقوله: {ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل}. حتى آخر السورة. وهكذا نرى عندما يقول {عملوا الصالحات}. تأتي على وجه العموم لا على وجه الخصوص دون أن تعرف ما هي هذه الصالحات، لأنها متغيرة حسب الزمان والمكان وتطور التاريخ فيبقيها دون تعريف.
فالعمل عام، والفعل خاص ومعرف. فنقول إن زيدا من الناس يعمل نجارا ولا نقول يفعل نجارا، فيقول بالأفعال التالية: ينشر الخشب ويدقا لمسامير ويلصق الألواح الخشبية بعضها ببعض. أي أن العمل بشكل عام والعمل الإنتاجي بشكل خاص يمكن أن يقسم إلى أفعال أولية معرفة كل على حدة.
الآن بعد أن عرفنا الفعل والعمل نرى أن حالة إثبات المعرفة لله سبحانه وتعالى جاءت في الكتاب على ثلاث حالات:
  • الحالة الأولى:
حالة إثبات المعرفة على وجه الخصوص أي جاءت المعرفة للحدث المعروض في الآية وقد جاءت على وجهين:
أ- تقديم العلم على الفعل:
  • {إن الله يعلم ما تفعلون} (النحل 91).
  • {إنه خبير بما تفعلون} (النمل 88) “الخبرة = العلم + الممارسة”.
  • {ويعلم ما تفعلون} (الشورى 25).
  • {ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} (الأنعام 159).
  • {إن الله عليم بما يفعلون} (يونس 36).
ب- تقديم الفعل على العلم:
  • {وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما} (النساء 127).
  • {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} (البقرة 215).
  • {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} (البقرة 197).
هنا قدم الفعل على العلم بصيغة واحدة فقط هي {من خير}. حيث ذكر الخير في حالة التبعيض في بداية الآيات، وبما أن علم الله يحمل كل الاحتمالات وضع العلم بعد صيغة “من خير”.
  • الحالة الثانية:
حالة إثبات المعرفة على وجه العموم أي ن المعرفة لم تقتصر على الأحداث المذكورة في الآية بل معرفة عامة كاملة وجاءت في صيغتين:
أ- حالة تقديم العلم على العمل: وقد جاءت هذه الصيغة في الكتاب/36/مرة بالأشكال التالية:
  • {والله خبير بما تعملون} (آل عمران 153).
  • {والله بصير بما يعملون} (البقرة 96).
  • {والله عليم بما يعملون} (يوسف 19).
  • {والله شهيد على ما تعملون} (آل عمران 98).
  • {فينبئهم بما عملوا} (النور 64).
  • {فينظر كيف تعملون} (الأعراف 129).
  • {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية 29).
ب- حالة تقديم العمل على العلم: وقد جاءت هذه الصيغة في الكتاب/37/ مرة بالأشكال التالية:
  • {إن الله بما تعملون بصير} (البقرة 110).
  • {والله بما تعملون خبير} (البقرة 234).
  • {ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا} (يونس 61).
  • {إن ربي بما تعملون محيط} (هود 92).
  • {إني بما تعملون عليم} (المؤمنون 51).
  • الحالة الثالثة:
حالة نفي الجهل جاءت حصرا على وجه العموم أي وردت كلمة “عمل” ولا نجد في الكتاب صيغة “فعل” مع نفي الجهل وذلك لنفي الجهل على العموم لا لنفي الجهل بالموضوع المذكور بالآية ولو جاء نفي الجهل مع “يفعلون” لنفي جهله في الفعل المعرف مع زمن حدوثه بالآية فقط مع إمكانية جهله بمواضيع أخرى وفي أزمنة أخرى:
  • {وما الله بغافل عما تعلمون} (البقرة 74).
  • {وما الله بغافل عما تعملون} (البقرة 85).
  • {وما الله بغافل عما تعلمون} (البقرة 149).
  • {وما ربك بغافل عما يعملون} (الأنعام 132).
  • {وما الله بغافل عما تعملون} (آل عمران 99).
  • {وما ربك بغافل عما تعلمون} (هود 123).
  • {وما ربك بغافل عما تعملون} (النمل 93).
  • {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون} (فصلت 22).
  • {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} (إبراهيم 42).
إرادة الله وأفعاله كلها معرفة له:
  • {ولكن الله يفعل ما يريد} (البقرة 253).
  • {كذلك الله يفعل ما يشاء} (آل عمران 40).
  • {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} (النساء 147).
  • {ويفعل الله ما يشاء} (إبراهيم 27).
  • {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء 23).
  • {إن الله يفعل ما يريد} (الحج 14).
  • {إن الله يفعل ما يشاء} (الحج 18).
  • {فعال لما يريد} (هود 107).
  • {فعال لما يريد} (البروج 16).
  • {وكان أمر الله مفعولا} (النساء 47).
  • {ليقضي الله أمرا كان مفعولا} (الأنفال 42).
  • {ليقضي الله أمرا كان مفعولا} (الأنفال 44).
  • {وكان وعدا مفعولا} (الإسراء 5).
  • {إن كان وعد ربنا لمفعولا} (الإسراء 108).
  • {وكان أمر الله مفعولا} (الأحزاب 37).
  • {كان وعده مفعولا} (المزمل).
شرح قوله تعالى:
{أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون} (يس 71).
هنا لو قال “مما فعلت أيدينا أنعاما” فهذا يعني أن المخاطب وهو الإنسان يعلم كل الأفعال المتالية والمتوازية المعرفة التي تمت في خلق الأنعام ابتداء من أول خلية حية حتى الوصول إلى الأنعام أو لذكر ما هي كل الأفعال التي نفذت حتى تم خلق الأنعام، ولو كانت هذه الأفعال معرفة للمخاطب لاستطاع هذا المخاطب أن يخلق أنعاما بنفسه. وهنا يجب أن نشرح كلمة {أيدينا}: فالأيدي جاءت من فعل “أيد” ومنه جاءت الأيدي والأيادي والتأييد، فنقول إن فلانا أيد فلانا في موقفه فهذا يعني أنه وافقه وبالتالي مد له يد المساعدة “
دعمه” وهكذا نفهم قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} (الفتح 10).
إن الله سبحانه وتعالى أيد الصحابة في بيعة الرضوان في موقفهم هذا ومد لهم يد المساعدة وكذلك نفهم قوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} (الذاريات 47) فالآية تدل على القدرة والحفظ على وجه العموم لا الحصر.
وإذا جاءت من “يد” فهي تعني المنعة والقوة والإصلاح “ضرب بيد من حديد” أي ضرب بمنعة وقوة، أي اتخذ موقفا منيعا وقويا.
- معنى فعل “صنع”:
استعمل الفعل صنع في الكتاب للدلالة على تاج عمل كقوله لنوح {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبين في الذين ظلموا إنهم مغرقون} (هود 37). وقوله: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا} (المؤمنون 27). وبما أن السحر كان مهنة أيام موسى قال: {وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر} (طه 69). وفي قوله عن داوود قال: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} (الأنبياء 80). وعن الطبيعة التي هي من صنع الله قال: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون} (النمل 88). أما قوله تعالى عن قوم هود {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} (الشعراء 129). هنا بما أن قوم هود كانوا يبنون بيوتهم في الأماكن العالية لقوله: {تبنون بكل ريع آية تعبثون} (الشعراء 128).
والريع هو المكان العالي، وبما أن هذا المكان العالي بحاجة إلى مياه فقد صنعوا أيضا حفرا لتجميع المياه، سميت مصانع، وإلى الآن تستعمل في بعض البلاد العربية كلمة “مصنع مياه” أي خزان ماء. وعندما قال: {إن الله خبير بما يصنعون} (النور 30} {إن الله عليم بما يصنعون} (فاطر8)، {والله يعلم ما تصنعون} (العنكبوت 45). فالصناعة تحتاج إلى علم وخبرة ومؤلفة من مجموعة من الأفعال المحددة لإنتاج شيء ما لذا رافعه: عليم وخبير بما يصنعون فوضع “عليم وخبير” قبل “يصنعون” لا بعدها لأنه قالها على وجه الخصوص لا على وجه العموم. أما قوله لموسى {وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني} (طه 39). حيث تربى في بيت فرعون وقام فرعون بتربيته وتنشئته والله يرعاه قال: {ولتصنع على عيني} لذا فقولنا “الجامعة هي مصنع العلماء” يعتبر قولا عربيا صحيحا أي لتحويل الجاهل إلى متعلم.
ولنشرح الآن الآيتين التاليتين:
1 – {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} (النحل 112). إذ أن آيات الأمثال هيمن القرآن دائما لقوله ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل} (الكهف 54). ففي هذه الآية قانون موضوعي، هذا القانون هو أن كل مجتمع إنساني مستقر “قرية” كفر بأنعم الله فهناك عقابان هما نتيجة صنع الإنسان نفسه، هنا “الباء” في “بما” هي باء الاستعانة كقولنا “ضربتك بيدي” العقاب الأول هو الجوع، والعقاب الثاني هو الخوف. وسببهما هو صناعة الإنسان نفسه. فإذا نظرنا الآن مثلا إلى العالم رأينا أنه يصنع القنابل الذرية وحاملات الطائرات والغواصات والصواريخ فإذا عرفنا الآن أن حاملة طائرات واحدة مع ملحقاتها تكلف حوالي/20/مليار دولار لعرفنا النفقات الهائلة الأسطورية التي تنفق على سباق التسليح.
هذا السباق ينتج عنه مشكلتان:
  • الأولى: الجوع حيث أن هذه النفقات تذهب على حساب متطلبات الإنسان ورفاهيته.
  • والثانية: الخوف حيث أن هذه الأسلحة تسبب الدمار الهائل فأصبحت تشكل كابوسا على الإنسان، وهذه الأسلحة هي من صناعة الإنسان أصلا أي من نتاج عمله لذا قال: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}. وهذا أيضا يدل على أن القرية عندما تكفر بالله لا يقطع الله عنها الرزق من ماء وشجر وزراعة…الخ، لأنه ربها. فسباق التسلخ هو عذاب الله على الكفر بنعمته في العصر الحديث. فعلى الإنسانية المؤمنة أن تسعى لوضع حد لهذا العذاب. إن مقياس إخلاص الإنسان تجاه الإنسانية هو موقفه من سباق التسلح وهدر المليارات من النقود على آلة الرعب وسبب الجوع. وهكذا نفهم قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} (هود 15} (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} (هود 16).
هذه الآيات تقول للذين لا يؤمنون إلا بالحياة الدنيا ويظنون أنها نهاية المطاف وأنه لا آخرة بعدها فالله يوف إليهم أعمالهم فيها ولا يبخسهم فيها شيئا. أما في الآخرة فلا تفيدهم كل صناعاتهم المنتجة في الدنيا لذا قال: {وحبط ما صنعوا فيها}. يظن بعضهم أن الدنيا للكافر والآخرة للمؤمن! وهذا غير صحيح. فالدنيا للكافر والمؤمن على حد سواء، والمؤمن له ثواب الآخرة بالإضافة إلى الدنيا. أما الكافر فلا يوجد له ثواب في الآخرة.
2 – {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد} (الرعد 31).
تدل هذه الآية على أن مواضيع القرآن هي العلم فقط لذا قال {قطعت به الأرض أو كلم به الموتى… الخ) وإن العلم متاح لكل إنسان لذا قال عن القرآن: {هدى للناس}. هذه العلوم متاحة للمؤمن والكافر على حد سواء لذا قال للمؤمن إن قوانين الجدل هي قوانين موضوعية وإنه لا مناص من وجود الكفر والإيمان معا وإن الكفر لا ينتهي والإيمان لا ينتهي بل هما في علاقة جدلية مادامت الإنسانية موجودة.
أما الذين كفروا فيصيبهم {بما صنعوا} فالباء هنا باء الاستعانة أي بصناعتهم التي هي نتاج عملهم ستصيبهم {قارعة} وهي من فعل “قرع” وهي الضربة القاصمة القوية {أو تحل قريبا من دارهم} وهنا يجب أن نميز بين الدار والديار، فالدار هي قطعة من الأرض تسمى الوطن، فالأرض التركية هي دار الأتراك، أما الديار فهي أبنية لها جدران لذا قال {أو تحل قريبا من دارهم} أي مجاورة لحدودهم وهذا المعنى جاء في قوم ثمود فهناك فئتان من لناس في ثمود، الفئة الأولى تسكن البيوت المنحوتة في الجبال وهذه البيوت لها أبواب وجدران ولكنها دون نوافذ فهلك سكانها بالصيحة “الموجة الصوتية” لذا قال: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين} (هود 67).
أما الفئة الثانية من الناس فكان تعيش خارج البيوت المنحوتة في السهول ولا تؤثر فيها الموجة الصوتية وكانوا يعيشون على قطع من الأرض لها حدود فيها بينها لقوله: {تتخذون من سهولها قصورا} (الأعراف 74). والقصور جاءت من “قصر” أي أن إنسانا ما أخذ قطعة من الأرض ووضع لها حدودا وأصبحت هذه الأرض مقتصرة له، وبدون أن يبني عليها مبنى له جدران فهؤلاء أهلكهم الله بالزلزال، لذا قال: {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} (الأعراف 78).
- الكسب:
هو المردود الإيجابي للعمل لذا قال: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت…الآية} (البقرة 286). أما الاكتساب فهو المردود السلبي للعمل لذا قال عن الكسب لها وعن الاكتساب عليها.
الآن لنلخص معاني المفردات الأربع بالمفهوم الإنساني العاقل، لا بالمفهوم الطبيعي:
- العمل: حركة واعية يبذلها الإنسان العاقل ويحمل معنى العموم هنا وقلنا الإنسان العاقل لنميزها عن العمل الناتج عن الحركة الميكانيكية للأجسام أي المعنى الفيزيائي البحت.
الفعل: هو عمل معرف محدد ويحمل معنى الخصوص “أكل، شرب، ضرب، نام”.
  • الصنع: هو نتاج العمل “أو نتاج تربية”.
  • الكسب: هوا لمردود الإيجابي للعمل.
  • الأجر: هو ما يعطيه رب العمل للإنسان مقابل عمل هو للمأجور كسب.
فنقول إن زيدا من الناس يعمل نجارا ويقوم بالأفعال التالية: يقطع الخشب ويدق المسامير ويلصق الخشب ثم يدهنه فيصنع كرسيا ويكسب نقودا. ونقول ضرب زيد عمرا فاكتسب إثما، فالضرب فعل والإثم اكتساب. فهل هذه المعاني تنطبق على الزراعة؟ لا تنطبق كليا لأنه إذا قلنا إن زيدا من لاناس يعمل في الزراعة فإنه يقوم بالأفعال التالية: يشق الأرض ويبذر البذار ويذر السماد ويقوم هو بعدة أفعال لكي تنتج الأرض المحصول فالإنسان يعمل في الأرض، والأرض هي التي تنتج المحصول لذا قال الله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} (الواقعة 63-64) فالحرث هو غلة الأرض الزراعية لا شق الأرض الزراعية، لذا فحرث الأرض هو كسب لمن عمل فيها وهو كسب.
فالمزارع يقوم بالأفعال المذكورة لكي تنتج الأرض، لأن الأرض يمكن أن تنتج دون تدخل الإنسان كما نرى في الغطاء النباتي الطبيعي للكرة الأرضية وفيا لبحار. لقد ذكر تدخل الإنسان “بالعمل بالأرض وفي الحرث” لا في الزراعة نفسها. وأن مصطلح الزراعة والصناعة مفصولان عن بعضهما وهذا صحيح، فالإنسان يعمل في الزراعة ويجني الحرث، والأرض تنتج. ويعمل في الصناعة وهو ينتج لذا قال في سورة يس عن خيرات الأرض من النبات: {ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم} (يس 35). هنا قال عن لنبات: {ليأكلوا من ثمره}. ومن عمل الإنسان {وما عملته أيديهم}. أي والذي عملته أيديهم.
لنشرح الآن لماذا فصل القول ولم يعتبره فعلا حيث قال {لم تقولون مالا تفعلون} (الصف 2)، أليس القول فعل يقوم به الفم واللسان والجهاز الصوتي؟ أقول لا ليس هذا بالقول، وإنما هو الكلام. فالكلام فعل وليس قولا فعندما يتكلم الإنسان فيصدر أصواتا هي الكلام وهذا الإصدار حقيقة موضوعية لأنه صوت وهذا ما نسميه بالنطق، فالنطق فعل وحقيقة لذا قال: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} (الذاريات 23)
ولم يقل مثلما أنكم تقولون، فالنطق للكلمات لا للأقوال لذا قال سليمان: {يا أيها الناس علمنا منطق الطير} (النمل 16) ولم يقل قول الطير.
أما القول فهو عندما تصل الكلمات إلى ذهن السامع فتتحول إلى معنى في الذهن فهذا المعنى هو القول، فالإنسان نطقه حق وليس من الضروري أن يكون قوله حقا. أما الله سبحانه وتعالى فالقول والوجود بالنسبة له واحد لذا قال: {قوله الحق)، وإن الكون كله ما هو إلا عين كلمات رب العالمين لذا قال: {إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس 82).
هل أعمال الإنسان محددة سلفا؟ وما معنى قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} (الصافات 96).
لاحظ أنه قال “وما تعملون” ليضعها على وجه العموم علما بأن الأفعال هي أعمال معرفة.
ولنأخذ الآن أعمال الإنسان على العموم لنحولها إلى أفعال على الخصوص، ولكن بعد شرح معاني الأفعال التالية في اللسان العربي:
- خلق، سوى، جعل:
1- خلق:
فعل خلق في اللسان العربي له أصلان صحيحان، الأول يعني التقدير قبل التنفيذ كقولنا خلق الخياط القميص من القماش أي قدره قبل القطع. فعندما يأخذ الخياط قطعة القماش ويضع عليها علامات تبين الأكمام والصدر والظهر…الخ قبل القص فهذا يعني أنه يخلق قميصا، وهذا ما نقول عنه في اللغة المعاصرة “التصميم” فعندما نخلق سيارة “نصمم” نخلق الأسطوانة والمكبس وكل قطع المحرك وبقية السيارة، كل هذا الخلق يتم على المخططات طبقا لقوانين الميكانيك والترموديناميك، فكل ما تقوم به السيارة من عمل هو طبقا للتصميم الموضوع “
الخلق” مؤلف من أفعال أولية موجودة في بنية التصميم.
وعندما نقول خلق المهندس بيتا أي وضع له مخططات معماري وإنشائية وصحية وكهربائية قبل التنفيذ، فالله يخلق والإنسان يخلق، ولكن الله أحسن الخالقين كما في قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين) وذلك لأنه بكل خلق عليم، فالله هو خالق السموات والأرض ولكن الخلق يمكن أن يكون منقولا فليس من الضروري أن كل بيت يخلقه مهندس هو تصميم لا سابق له فإذا كان لا سابقة له فهذا يسمى الإبداع لذا قال: {بديع السموات والأرض} (البقرة 117) أي أن السموات والأرض التي نراها حاليا ليس لها سابقة فالله هو خالق السموات والأرض وهو بديع السموات والأرض.
وهنا يجب أن نفهم بشكل واضح وجلي أن الخلق لا يعني الإيجاد من العدم كما يظن البعض فنرى أنه لا توجد آية واحدة في الكتاب تقول إن الخلق من العدم وإنما من شيء كقوله: {خلق الإنسان من علق} (العلق 2)، فهل العلق عدم؟! وقوله: {إني خالق بشرا من طين} (ص 71). وقوله: {خلقتني من نار وخلقته من طين} (الأعراف 12) وقوله: {ثم كان علقة فخلق فسوى} (القيامة 38) وقوله: {وهو الذي خلق منا لماء بشرا} (الفرقان 54) وقوله: {خلقتني من نار وخلقته من طين} (الأعراف 12) وقوله: {ثم كان علقة فخلق فسوى} (القيامة 38) وقوله: {وهو الذي خلق من الماء بشرا} (الفرقان 54) وقوله: {وبدأ خلق الإنسان من طين} (السجدة 7).
فعندما يذكر فعل خلق فإما أن يقول: من ماذا؟ كالآيات السابق ذكرها، أو لا يقول شيئا كقوله: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام 1). أما لماذا سميت بعض النواحي في السلوك الإنساني أخلاقا وهي من فعل “خلق” هذا فلأن الإنسان في تصميمه “خلق” مهيأ لهذا السلوك فنقول: خلق سيء وخلق حسن، وجاءت في هذا المعنى “الخلاق” وهو ما يستحقه الإنسان نتيجة لسلوك معين فنقول أن زيدا من الناس خليق بكذا وكذا كقوله تعالى: {ما له في الآخرة من خلاق} (البقرة 102). وقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم4). أما المعنى الثاني لفعل “خلق” هوا لتمليس فنقول صخرة خلقاء أي صخرة ملساء.
2- سوى:
وله في اللسان العربي عدة أصول صحيحة:
أولها: المساواة فنقول أن 3+1=4، ثلاثة مضاف إليها واحد تساوي الأربعة. وفي هذا المعنى جاءت في قوله تعالى: {وقدر فيه أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} (فصلت 10) أي أن الأرض تعطي أقواتها وخيراتها للذي يعمل فيها ويأخذها كافر أو مؤمن على حد سواء. وقوله: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} (البقرة 6). وبما أن المساواة في المعادلة تكون في الوسط وعلى طرفيها حدود المعادلة فيستنتج منها المعنى الثاني وهو الوسط كقوله تعالى: {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} (الصافات 55) هنا سواء الجحيم أي في وسط الجحيم.
أما المعنى الثالث فهو بعد التصميم نقوم بما نسميه بالتسوية فإن أي تصميم “خلق” يحتاج بعده إلى عملية تنفيذ فعلية لتحويل المخطط المخلوق إلى شيء واقعي منفذ على أرض الحقيقة لذا فإن أي تصميم يعقبه تنفيذ مباشر لذا قال: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى} (الأعلى 1، 2) فالخلق يعقبه تسوية ولاحظ أن “فاء” التعقيب والسببية جاءت بين فعلين “خلق، سوى”.
والتسوية هي التنفيذ الكامل للتصميم بدون أي نقصان أو عيب فعندما نقول إن زيدا من الناس “إنسان غير سوي”: فيه عيب ونقص. وهكذا نفهم: {فتمثل لها بشرا سويا} (مريم 17) أي أن جبريل تمثل لمريم بصورة بشر سوي لا عيب فيه ولا نقص. ولم تلاحظ مريم أي شيء غير بشري. لاحظ قوله: {بشرا سويا}. ولم يقل إنسانا سويا للتأكيد على كمال الناحية الفيزيولوجية.
وعندما قال الله للملائكة عن خلق البشر أعقبه مباشرة بالتسوية بقوله: {إذ قال ربك للملائكة إن يخالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (ص 71، 72) فلاحظ كيف أن الخلق هو التصميم الذي أعقبه التسوية “التنفيذ”.
أما المعنى الأخير لفعل “سوى” فهو الاستقرار والتحكم كقوله تعالى: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} (الزخرف 13). فالاستواء على ظهور الأنعام هو عملية الاستقرار عليها، فيمكن للإنسان أن يركب على ظهر الجواد ثم يقع عن ظهره أثناء التذليل. أما الاستواء فهو الاستقرار والتحكم وهكذا نفهم قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (طه 5).
3- جعل:
وتعني في اللسان العربي انتقالا من حالة إلى حالة أو تغيرا في الصيرورة لشيء موجود فعلا كقوله تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} (الزخرف 3). فهنا “جعل” تدل على أن القرآن كان موجودا فأخذت منه نسخة مترجمة إلى العربية لذا قال: {إنا جعلناه}. ولم يقل “إنا خلقناه” فالجعل يمكن أن يتم بتغيرات أثناء عملية التسوية أو بعدها كقوله عن أحد مراحل التسوية في لأرض {وجعل فيها رواسي من فوقها} (فصلت 10). أي أن الأرض كانت كرة ملتهبة سائلة وتجمد قسم منها وهو القشرة الخارجية لذا قال: {رواسي من فوقها} (فصلت 10).
أي أن الأرض كانت كرة ملتهبة سائلة وتجمد قسم منها وهو القشرة الخارجية لذا قال: {رواسي من فوقها}. وندما قال الله سبحانه وتعالى لإبراهيم: {إني جاعلك للناس إمام} (البقرة 124) أي أن إبراهيم لم يكن إمام للنسا فأصبح إماما لهم، أي أضيفت له صفة صار بها إماما للناس. وقوله تعالى: {وجعلنا منا لماء كل شيء حي} (الأنبياء 30) أي أن الماء يغير في صيرورة الأشياء من كائن غير حي إلى كائن حي وقوله: {ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} (القيامة 38، 39) لاحظ كيف جاءت الأفعال الثالثة متتالية “خلق، سوى، جعل” هنا جاء التصميم ثم التنفيذ ثم تغير من صيرورة إلى صيرورة أخرى.
ولنعد الآن إلى الموضوع الأساسي وهو قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون) (الصافات 96). ولنأخذ أعضاء الحركة عند الإنسان:
1 – اليد: تألف من الكف والزند والذراع وفيها عدة مفاصل فإذانظرنا إلى اليد من حيث البنية فنرى أن الأفعال التالية موجودة في تصميم هذه البنية “الخلق”. فنرى أن الكف يحوي في بنيته “خلقه” على إمكانية الحركة باتجاهين متضادين، القبض والبسط وكذلك الأصابع مع مفاصلها تحتوي في بنيتها على مجموعة منالأفعال. وكذلك الذراع والزند يحتويان في بنيتهما على مجموعة من الأفعال، وكل هذه الأفعال الموجودة ضمن مجال حركتها البنيوي عبارة عن أضداد قاليد اليمنى واليد اليسرى أزواج والحركات ضمن اليد اليمنى واليسرى أضداد، فالقبض والبسط في الكف وعملية الكب والاستلقاء في الزند وعملية الرفع والتنزيل في الزند وفي الذراع وعملية الحركة إلى الأمام والخلف في الذراع… وهكذا دواليك وكذلك الأرجل ففي بنيتها تحوي أفعالا وتوجد فيها أفعال على شكل أضداد “الوقوف والمشي” وفي الحوض والأرجل “الجلوس والنهوض”.
وكذلك الأعين عين يمنى وعين يسرى “أزواج” فيها تدخل إمكانية العمى والبصر “أضداد” والأذن فيها إمكانية الصمم والسمع واللسان فيه إمكانية البكامة والكلام والبلعوم فيه إمكانية التقيؤ والبلع.
فإذا أراد الإنسان أن يقوم بعمل ما على وجه العموم فإن هذا العمل يتألف من مجموعة منا أفعال الأولية على وجه الخصوص وإمكانية هذه الأفعال موجودة في بنيته فلا يستطيع أي إنسان أن يمضغ الطعام برجليه ويمشي بأسنانه.
فكل أفعال الإنسان التي يقوم بها على وجه الخصوص للقيام بعمل على وجه العموم هي ممكنة التنفيذ في بنيته “خلقه” وعلى هذا فالإنسان لا يخلق ولا يستطيع أن يخلق أي فعل غير موجود في بنيته أو في الطبيعة. فرب سائل يقول إن الإنسان صنع السيارة والصاروخ والغواصة والرافعة والطائرة والأ>وية. أقول إن الإنسان صنع هذه الأشياء من قوانين موجودة في الطبيعة، فالإنسان صنع الطائرة نتيجة استيعابه لقواني الطيران الموجودة فعلا في الطبيعة والتي شاهدها أولا من خلال الطيور والحشرات الطائرة لذا فقد سمى القرآن ظواهر الطبيعة {آيات الله}. فالإنسان بعد أن عرف هذه الأفعال الموجودة بالإدراك الفؤادي أولا، ثم بالتجريد العقلي “القوننة” وصل إلى ظاهرة الإبتكار والتخيل فقلد أفعال الطبيعة وأبدع فيها وسخرها لمصلحته “للإعمار أو الدمار” وابتكر آلاف الأدوات والتجهيزات الجديدة، لذا لم يقل أبدا في الكتاب “والله خلقكم وما تصنعون” بل قال: {إن الله عليم بما يصنعون} (فاطر 8).
وقال: {إن الله خبير بما يصنعون} (النور 30). فكل ما ذكر سابقا عن الأفعال ووجودها في الطبيعة هي حقيقة موضوعية موجودة خارج الوعي الإنساني “حق” وهي تعتبر من قوانين القدر “الوجود”.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو دور الإنسان في هذا وأين الخيار والحرية للإنسان؟ أي أين قضاء الإنسان؟ وما علاقة الإنسان بقوانين القدر القائمة في ظواهرها على الأضداد وفي ذاتها على المتناقضات الأزواج “التأثير والتأثر المتبادل”؟
الجواب هو أن العلاقة تتحدد حصرا بالمعرفة فعندما عرف الإنسان قوانين القدر في الدورة الدموية وفي دورة الدم في القلب والشرايين استطاع أن يقضي فيها وذلك بالعمليات الجراحية وبالتالي زادت حريته فيما يتعلق بهذا الموضوع. وعندما عرف قوانين الطيران استطاع أن يصمم الطائرة وينتجها وبالتالي ازدادت درجة حريته في التنقل، وعندما عرف قوانين الكيمياء زادت درجة حريته في اختراع الأدوية… وهكذا دواليك، فالإنسان يتعلم ظواهر الطبيعة والأفعال المقدرة فيها لكي يمارس القضاء من خلالها حيث أن حريته تكمن فيهما معا.
فالموت قدر والقتل قضاء ولولا الموت لما كان هناك قتل. ووجود إمكانية الضرب باليد قدر والقيام بعملية الضرب قضاء وهذا نراه في قوله تعالى: {هو يحي ويميت} (يونس 56). “قدر إلهي”. وقوله: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} (المائدة 28) “قضاء إنساني”.
فكلما زاد جهل الإنسان بالمقدرات زاد شعوره بالجبرية، فالإنسان يطلب الأشياء حسب معرفته لها، والذي لا يعرف شيئا لا يطلب شيئا لذا قال: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} (الأنفال 22) فمثلا كان الإنسان سابقا يظن أن وجوده على الأرض وجود جبري، ولكن عندما عرف قوانين الجاذبية وقوانين الطيران والدفع الصاروخي تخطى هذه الجبرية فأصبح يخرج من الأرض ثم يعود إليها.
لنضع الآن تعريفا للقضاء والقدر والحرية:
  1. القدر: هو الوجود الموضوعي للأشياء وظواهرها خارج الوعي الإنساني.
  2. القضاء: هو ظاهرة تتمثل في السلوك الواعي “إرادة إنسانية” قائم على الحركة بين الأضداد، أي سلوك بين نفي وإثبات في ظواهر الوجود “القدر”.
فالقضاء الإنساني المتحرك دائما يتولد من القدر من خلال المعرفة المتحركة دائما “والتي تعتبر المقادير أعلى شكل للتعبير عنها”.
وبما أن المعرفة الإنسانية لظواهر الوجود متحركة دائما إلى الأعلى وبالتالي فالقضاء الإنساني متحرك دائما إلى الأعلى.
هذه التعاريف يمكن أن نمثلها بالشكل الرمزي التالي:
p1-434 فكلما زادت معرفة الإنسان بالقدر زاد قضاؤه وبالتالي زادت حريته وانخفض مفهوم الجبرية عنده. فالقضاء دون قدر وهم وأحلام يقظة “لا موضوعية”، والقدر دون قضاء جهل ورجعية أو رجوع إلى المملكة الحيوانية.
من هذا التعريف للقضاء والقدر نستطيع ن نضع تعريفا جامعا مانعا للحرية والتقدمية:
1 – الحرية: هي إرادة إنسانية واعية دائمة الحركة بين النفي والإثبات في الأضداد “ظواهر الوجود”.
P1-435-1
فالسؤال الآن: كيف بدأت حرية الإنسان “الومضة الأولى للحرية”؟ بدأت هذه الومضة الأولى مع بداية المعرفة الإنسانية وهذه الومضة جاءت مع نفخة الروح وهي الحلقة المفقودة بين البشر “المملكة الحيوانية” والإنسان وقد تم شرحها في مقال سابق.
ولنعبر عن هذا الانتقال بالمعادلات التالية:
P1-435-2من هذا التعريف نرى أن ظاهرة الحرية لها مركبتان: المركبة الأولى موضوعية وهي الوجود الموضوعي للأشياء وظواهرها. والمركبة الثانية ذاتية وجاءت من نفخة الروح وهي المعرفة التي نتج عنها إرادة واعية. فأول شيء مارسه آدم بعد المعرفة مباشرة هو الحرية، وكانت هذه الحرية في معصية أمر الله. لذا فإن الذي يطلب الحرية لا يطلب وهما ولا يعيش في وهم، وإن أحد الأسباب الرئيسية لمعاداة العرب للنبي صلى الله عليه وسلم هو الجهل لذا كان الني صلى الله عليه وسلم يدعو بقوله “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون”.
أما التعريف القائل إن الحرية هي “وعي الضرورة” فهو تعريف ناقص، فوعي الضرورة لا يكفي لممارسة الحرية حيث أن هذا الوعي والذي أطلقنا عليه مصطلح المعرفة بالموجودات هو شرط لازم غير كاف لممارسة الحرية حيث قلنا إن الحرية ظاهرة وليست شيئا. لذا فإنها تقوم على الأضداد.
فحتى يمارس الإنسان حريته يجب ن يكون هناك مجال للاختيار بين ضدين أي مجال للنفي والإثبات وهنا يكمن سر جدل الإنسان في الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. فحتى يتحقق جدل الإنسان في الفكر يجب أن يكون هناك الفكر والفكر المضاد والرأي والرأي المضاد “جدل غير متخاصم” وهذه الخاصية تعتبر أهم خاصية في المجتمعات الإنسانية الحرة المتحضرة.
وإذا سأل سائل: ما هي وحدة الفكر والفكر المضاد في المجتمعات المتحضرة؟ أقول: وحجتهما هي البحث عن الحقيقة في المعرفة والوطنية في السياسة والاقتصاد.
2 – التقدمية: بما أن المعرفة الإنسانية هي معرفة صاعدة إلى الأعلى وغير ثابتة وتحمل مفهوم النسبية، لذا فإن التقدمية هي الانتقال من درجة في الحرية كيفا وكما إلى درجة أعلى في كل نواحي الحياة. وإذا فقدت هذه الخاصية في رفع الحرية كما وكيفا للناس فقد فقدت أهم مبررات وجودها.
الآن لننتقل إلى تصحيح بعض الأخطاء الشائعة:
1 – إنه من الخطأ الفاحش عندما نعجز عن تفسير ظاهرة ما، كأن يقع إنسان ما من على السطح ويموت فنقول مات قضاء وقدرا. لأن قولنا مات قضاء وقدرا يعني أنه قتل عمدا من قبل شخص ما لا نعرفه والصحيح أن نقول مات قدرا. وكما قلت كلما زاد جهل الإنسان بالمقدرات زاد الجانب الجبري “القدري” في قناعاته وتصرفاته، لذا كلما زاد جهل الناس زاد تفسيرهم الجبري للأحداث وهذا شائع جدا في الوطن العربي حيث يرد كثير من الناس كثيرا من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والمرضية بقولهم “هذا مكتوب علينا” ويظنون أن هذه القناعة هي جزء أساسي منا لعقيدة الإسلامية وهي ليست أكثر من سذاجة.
2 – كلما زاد جهل الإنسان بقوانين الطبيعة والإجتماع والاقتصاد زاد ربطه للأحداث بمفهوم الصدفة وأكبر جهل يمكن أن يرتكبه إنسان هو أن يعزو ظهور الحياة على الأرض وظاهرة الإنسان إلى الصدفة.
3 – إن الإنسان مخير وحر في اختياره لكل أفعاله من خلا لعالم الحقيقة لا الوهم والناس ولدوا أحرارا مسلمين والذي يقيد الإنسان في اختياره هو أمران:
  1. المرجع الأخلاقي والمعرفي والجمالي والذي يعتبر المرجع القانوني امتدادا له.
  2. الإرهاب “الإكراه”.
فالأمر الأول يقبل به الإنسان العاقل المتحضر من وازع وجداني وإنساني بحت “التقوى” ومن وازع بشري بحت “الخوف من العقوبة”. أما الأمر الثاني فلا يستعمل إلا مع البهائم.
  • الخلاصة:
إن أساس العقيدة الإسلامية فيما يتعلق بالأعمال والأرزاق والأعمار بالنسبة للإنسان هو أن الله لم يحدد سلفا عمر الإنسان ورزقه وعمله، وإنما حدد سلفا القوانين الموضوعية “الكتب” التي من خلالها يولد الإنسان ويحيا ويموت “يطول عمره أو يقصر” والقوانين الموضوعية التي من خلالها يرزق الإنسان، والقوانين الموضوعية التي من خلالها يعمل الإنسان.
والإنسان حرفي اختياره من خلال هذه القوانين، ولا يحد اختياره إلا أمران: المرجعية المعرفية والأخلاقية والجمالية والعرفية أو الإكراه. وإن تدخل الله في قضائه في هذه الأشياء هو تدخل ظرفي “المشيئة” مرهون بموقف الإنسان وبالظروف الموضوعية التي يوجد فيها: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد 11).
وإن قضاء الله هو إما أمر ضد النهي فأعطى فيه القانون الأخلاقي والتشريعي “الذاتي”. أما قضاؤه من خلال أمر نافذ وغير مبرم منذ الأزل إنما هو ظرفي لذا قال: {إذا أراد} وتدخله من خلال كلماته، وكلماته هي الوجود، والقوانين الموضوعية للأشياء خارج الوعي. وبما أن الله كامل المعرفة فهو الحر المطلق بهذه القوانين يتدخل فيها لمصلحة الإنسان أو ضده. وبما أن الإنسان ناقص المعرفة فهو ذو تصرف نسبي بهذه القوانين، وبالتالي فحريته نسبية وتزداد بازدياد معرفته لهذه القوانين الموضوعية، وكلما زادت معرفته بهذه القوانين زاد قربا من الله تعالى.
الديموقراطية:
بعد أن عرفنا الحرية والتقدمية ننتقل إلى تعريف الديموقراطية. الديموقراطية: هي ممارسة الحرية من قبل مجموعة من الناس ضمن علاقات معينة وفقا لمرجعية معرفية وأخلاقية وجمالية وعرفية. فنقول إن الله حر ولكنه غير ديموقراطي، لأن ديموقراطيته تتطلب آلهة مثله لكي يمارس حريته بالاتفاق معها ضمن مرجعية ما، وفي هذا المجال قال: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء 22). وقوله: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} (الإسراء 42) وهنا قوله: {لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا}. أي لابتغوا إلى ذي السلطة بينهم أي المرجع.
لنورد الآن بعض الأمثلة على أنواع المرجعية:
1 – المرجعية المعرفية: إن الأرضية العلمية وتقدما لمعارف بالموجودات “الطب، الفيزياء، الكيمياء، علم الإحصاء…الخ” تعطينا يوميا معلومات جديدة عن قوانين الوجود “القدر” وبالتالي تنمو معلوماتنا عن الضار والنافع في الموجودات. هذه المعلومات المتطورة تعطينا أرضية للقيام بتشريعات تحد من حرية الإنسان وأكبر مثال على ذلك “التلوث، التدخين، المواد السامة، المخدرات” حيث تم سن التشريعات هذه طبقا لأرضية معرفية بحتة، لا طبقا الأرضية أخلاقية وعليه فإن تقدم المعارف ينعكس على تطور التشريع بالضرورة، وهذه إحدى الصفات الحنيفية في الإسلام “انظر مبحث الاستقامة والحنيفية في الباب الثالث”.
2 – المرجع الأخلاقي: هذا المرجع هو من المراجع التي تحمل صفة الثبات في الإسلام وهي تحمل الصفة الكونية مثل الصدق والكذب وشهادة الزور وتحريم قتل النفس والوفاء بالكيل والميزان وحنث اليمين، وهذا المرجع الأخلاقي هو من المراجع التي لا تحمل صفة التطور وهو أحدا لصفات المستقيمة في الإسلام ويتمثل فيا لفرقان “الوصايا العشر” “انظر مقالتي حول الوصايا العشر في الباب الثالث”.
3 – المرجع الجمالي: هذا المرجع يحمل الصفة المتطورة حيث مفاهيم الإنسان عنا لجمال ضمن المفاهيم المتطورة “انظر مبحث الجمال في الباب الرابع” مثل أشكال اللباس والهندام.
4 – المرجع العرفي: وهوا لمرجع الذي يتبع أعراف المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان. فهذه الأعراف تختلف من مكان لآخر، ومن زمان لآخر، وهو يتبع الجانب الحنيفي في الإسلام ” انظر مقالتي حول المعروف والمتنكر في الباب الثالث”.
هذه المراجع الأربعة أضيف إليها في الإسلام مرجع خامس وهو الأحكام التي جاءت في الكتاب تحت بند “حدود الله” كالإرث… فهذا التشريع فيه حد من الحرية.
أنواع الحرية:
بما أن الحرية تدخل تحت بند جدل الإنسان وهي خاصة إنسانية بحتة تمارس م خلال المجتمعات الإنسانية وفق المرجعية المذكورة أعلاه، فلها عدة أشكال رئيسية تعبر عن ذاتها فيها. ونذرك منها واحدة فقط وهي حرية الفكر والرأي حيث أن بقية أنواع الحرية تبحث في مفهوم الدولة والمجتمع والقانون.
حرية الفكر وحرية التعبير عنه:
وهي أهم أنواع الحرية الإنسانية قاطبة، إذ أن الفكر والتعبير عنه هو أهم صفة مميزة للإنسان عنا لبهائم ويتجلى دائما في حرية الرأي والرأي المضاد وحرية الفكر دائما تقاس بالميزان المضاد لها. فحرية الفكر عند إنسان ما تقاس بمقدار ما يسمح للفكر المضاد له بالتعبير عن نفسه ولا تقاس بالمقدار الذي يسمح لنفس بالتعبير عن ذاته. أي يجب علينا دائما أن نقيس حرية الفكر بحرية الفكر المضاد.
وبما أن الحرية هي حركة واعية بين ضدين فيجب أن يكون هناك الضدان حتى نول إن هناك حرية أصلا. هذه الحرية هي من نتاج جدل الإنسان وهي ظاهرة مميزة للمجتمعات الإنسانية. وإن حرية الفكر والفكر المضاد لها وحدة هي البحث عن الحقيقة بالنسبة للوجود، وكلاهما يبحث عن الحقيقة ولا يقيد هذه الحرية إلا منهج البحث العلمي. وحرية الرأي والرأي المضاد في المجتمعات لها وحدة هي الوطنية ولا تقيدها إلا المفاهيم الوطنية التي تعتبر مرجعية هذه الحرية والتي يعبر عنها بالدستور.





  
 

الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة

BC1
تقديم المنهج اللغوي في الكتاب بقلم الدكتور جعفر دك الباب المقدمة
الباب الأول: الذكر
تمهيد في المصطلحات 1 – الكتاب والقرآن 2 – الذكر 3 – الفرقان
الفصل الأول: القرآن والسبع المثاني 1 – كلمات الله 2 – محتويات القرآن 3 – القرآن هو الآيات البينات 4 – القرآن هو الكتاب المبارك 5 – أسباب النزول هي للأحكام وتفصيل الكتاب 6 – مصطلح الحديث للقرآن فقط 7 – القصص من القرآن وهي الكتاب المبين 8 – السبع المثاني
الفصل الثاني: النبوة والرسالة 1 – القرآن (النبوة) هو الموضوعي وأم الكتاب (الرسالة) هو الذاتي 2 – أم الكتاب هي رسالة محمد (ص) وقد جاء القرآن تصديقاً لها 3 – تفصيل الكتاب 4 – أم الكتاب هي كتاب الألوهية والقرآن والسبع المثاني كتاب الربوبية 5 – العرب اهتموا بفهم الرسالة فقط 6 – القدر في القرآن والقضاء في أم الكتاب 7 – الكتاب عند موسى وعيسى 8 – النبي محمد (ص) كان أمياً وكان يقرأ ويكتب
الفصل الثالث: الإنزال والتنزيل 1 – الفرق بين الإنزال والتنزيل 2 – الإنزال والتنزيل للقرآن 3 – الإنزال والتنزيل لأم الكتاب وتفصيل الكتاب 4 – الإنزال والتنزيل للملائكة 5 – الإنزال والتنزيل للمن والسلوى 6 – الإنزال والتنزيل لمائدة من السماء
الفصل الرابع: إعجاز القرآن وتأويله 1 – التحذير من كتابة الكتاب والتحدي في القرآن 2 – السحر والمعجزات 3 – القرآن الكريم معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- الخالدة 4 – قواعد التأويل 5 – نموذج من التأويل – تأويل سورة القدر 6 – استنتاجات في الإعجاز القرآني
الفصل الخامس: شجرة الذكر أمثلة على آيات الذكر
الباب الثاني: جدل الكون والإنسان
تمهيد
الفصل الأول: قوانين جدل الكون أولاً: الثنائية التلازمية (جدل هلاك الشيء) ثانياً: الجدل الخارجي (جدل تلاؤم الزوجين) ثالثاً: أقوال في الصور والحساب والجنة والنار
الفصل الثاني: جدل الإنسان والمعرفة الإنسانية تمهيد في جدل الإنسان (الرحمن والشيطان) الفرع الأول: عناصر المعرفة الإنسانية الفرع الثاني: نشأة الإنسان واللغة
الفصل الثالث: نظرية المعرفة القرآنية تمهيد الفرع الأول: جدل الأضداد في معرفة آيات الله (العقل الرحماني والعقل الشيطاني) الفرع الثاني: أنواع المعرفة ونسبيتها الفرع الثالث: الوحي وعلم الله وقضاؤه
الفصل الرابع: الأعمار والأرزاق والأعمال الفرع الأول: الأعمار الفرع الثاني: الأرزاق الفرع الثالث: الأعمال
الباب الثالث: أم الكتاب والسنة والفقه
الفصل الأول: أم الكتاب (الرسالة) تمهيد الفرع الأول: الحدود في التشريع والعبادات الفرع الثاني: الفرقان أو الوصايا العشر (الأخلاق) الفرع الثالث: المعروف والمنكر والتعليمات التي جاءت بقوله (يا أيها النبي)
الفصل الثاني: السنة تمهيد الفرع الأول: سنة الرسالة وسنة النبوة الفرع الثاني: السنة النبوية في العمل الثوري وبناء الدولة الفرع الثالث: جمع الحديث وتدوينه وفهمه
الفصل الثالث: الفقه الإسلامي الفرع الأول: أزمة الفقه الإسلامي الفرع الثاني: فلسفة القضاء الإسلامي والعقوبات الفرع الثالث: نموذج للفقه الجديد في دراسة موضوع المرأة في الإسلام
الباب الرابع: في القرآن
الفصل الأول: الشهوات الإنسانية تمهيد الفرع الأول: الشهوات الإنسانية المذكورة في القرآن الفرع الثاني: أسس النظام الاقتصادي في الإسلام الفرع الثالث: أسس المفاهيم الجمالية في الشهوات الإنسانية
الفصل الثاني: القصص في القرآن تمهيد الفرع الأول: نوح عليه السلام الفرع الثاني: هود عليه السلام الفرع الثالث: الأنبياء والرسل
الخاتمة أولاً: تعريف الإسلام ثانياً: فصل الدين عن الدولة ثالثاً: إسلامية الدول العربية بالمنظور المعاصر رابعاً: أزمة العقل عند العرب خامساً: العروبة والإسلام



فصل الدين عن الدولة الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة





  فصل الدين عن الدولة  






  فصل الدين عن الدولة:
لنناقش الآن أطروحة فصل الدين عن الدولة، وأطروحة الدولة العلمانية.

لقد ظهرت هذه الأطروحة ابتداء من عصر النهضة في أوروبا نظرا لتناقض مكتشفات العلم مع التفسير التوراتي للكون، ونظرا لجمود شريعة موسى حيث أن طرح التوراة والإنجيل كان مرحليا، وشريعة موسى وعيسى كانت زمانية مكانية حدية، فكانت هذه المطالبة مبررة وتنسجم مع فطرة الإنسان، لذا تم في نهاية الأمر فصل الدين عن الدولة حيث أن الديانتين المسيحية واليهودية أصبحتا في المعابد فقط وكان الابتعاد عنهما ينسجم مع فطرة الإنسان الحنيفية. هذا هو السبب الأساسي في فصل الدين عن الدولة.

أما بالنسبة للدين الإسلامي فهو دين حنيفي منسجم مع الفطرة الإنسانية ويعتمد على التشريع الإنساني ضمن حدود الله وعلى البينات المادية وإجماع أكثرية الناس على التشريع.

لنناقش الآن فصل الدين عنا لدولة من وجهة نظر إسلامية:

1 – إذا أردنا فصل دين الحق عن الدولة، فهذا يعني أن الدولة غير معنية بالبحث العلمي وتطوير مناهج التعليم والجامعات وغير معنية بربط منجزات العلم مع الحياة. والدولة لا تعنيها البينات المادية والإحصائية في رسم سياساتها المختلفة، وبالتالي فإن الدولة تقوم على المنجمين والمشعوذين والدجالين.

2 – إذا أردنا فصل منهج التشريع الإسلامي “حدود الله” عن الدولة فهذا يعني أن الدولة غير حنيفية في التشريع، والتشريع فيها حدي غير متطور، والدولة لا يهمها إجماع أكثرية الناس على التشريع المطروح ولا تأخذ بعين الاعتبار تأثير تطور المعارف على التشريع، ففي هذا يقع ظلم كبير على الناس من جراء عدم تطوير التشريع زمانا ومكانا.

3 – إذا أردنا فصل الوصايا “الفرقان” عن الدولة فهذا يعني أن الدولة غير معنية بشهادة الزور وقتل النفس وإشاعة الفاحشة ورعاية الأيتام وحنث اليمين والوفاء بالمواصفات في البيع والشراء والإنتاج.

4 – إذا أردنا فصل مفاهيم الجمال عن الدولة والتي تعتبر من الفطرة الإنسانية فهذا يعني أن الدولة غير معنية بالآداب من شعر ونثر ورسم ونحت وتصوير وغير معنية بالرياضة والنشاطات الرياضية.

الآن إذا تم فصل هذه البنود الأربعة عن الدولة ينتج لدينا سؤال هام وهو: ما هي الدولة؟ الجواب هو في هذه الحالة: الدولة هي لا شيء. قد يقول البعض إن ما نعنيه بفصل الدين عن الدولة هو العبادات فقط. أقول: لقد كفاكم النبي صلى الله عليه وسلم مؤونة هذا الفصل حيث فصلها بنفسه. فهل مارس النبي الإكراه في العبادات الصلاة والصوم والحج؟ وهل كلف أحدا بمراقبة من يصلي ومن لا يصلي، أو من يصوم أو لا يصوم، أو منأدى فريضة الحج؟ لقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبادات أسلوب الترغيب والترهيب، أي الأسلوب التربوي البحت، لا الأسلوب السلطوي حيث نفهم أن الدولة تعني السلطة، والسلطة فيها إكراه، أي لو كانت الصلاة والصوم هي من مهام الدولة لوضعت الدولة عقوبة على تارك الصلاة والصوم، ولأكرهت الناس على أدائها.

وهذا لا يوجد في الإسلام بتاتا، حيث أن العبادات هي صلة بين العبد وربه، وكل مهمة الدولة ف العبادات تنحصر في التسهيل على الناس أداء الحد الأدنى من العبادات واحترام هذه العبادات وعدم تشجيع الناس على تركها.

وهكذا نفهم قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران 19)، {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران 85).

وهكذا نجد أيضا أنه لا يوجد إنسان في الأرض إلا وله في الإسلام نصيب علم ذلك أم لم يعلم، لأن الإسلام ينسجم مع الفطرة الإنسانية “طبيعة الناس”. قد يقول قائل إن معظم أهل الأرض في هذا المنظور ملتزمون بحدود الله ويعيشون حسب أعرافهم المتطورة، فهل يعني هذا أن معظم أهل الأرض سيدخلون الجنة؟ جاء الجواب في الكتاب أن المؤمنين منهم فقط سيدخلون الجنة، لذا أتبع قوله {الآمرون بالمعروف والناهون عنا لمنكر والحافظون لحدود الله} (التوبة 112).

بقوله {وبشر المؤمنين} (التوبة 112). أي أن البشرى للمؤمنين من هؤلاء. لذا فقد ورد الموقف الإلهي من الناس كافة في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (البقرة 62).

نلاحظ هنا أن هذه الآية تنطبق على كل أديان أهل الأرض السماوية منها وغيرها، والشرط الأساسي هنا الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. هنا نريد أن نصحح الخطأ الشائع وهو أن الصابئين هم أهل حران شمال شرق سوريا الذين أطلق عيهم الصابئة، والصح هو أن الصابئين من صبأ عن الأديان السماوية الثلاثة ولكنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهذا ما نعرفه عن قول العرب في مكة عندما كان يدخل أحد منهم في دين محمد صلى الله عليه وسلم (صبأ فلان) أي خرج عن دين الآباء ودخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم. وهنا الصابئون من صبأ عن ديانة موسى وعيسى ومحمد ولكنه مؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا.

من هنا نرى لماذا وضع صيغة المبني للمجهول في قوله: {فلن يقبل منه} (آل عمران 85) حيث أنه مفروغ منه أنه لن يقبل من قبل الله لقوله: {إن الدين عند الله الإسلام} ولكن هناك وجه آخر أنه (لن يقبل منه) من قبل الناس أيضا، فأي خروج من الفطرة الإنسانية في النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتشريعي فيه خروج عن الإسلام فسيؤدي ذلك بالضرورة إلى استنكار الناس له لذا فإن ميزاننا نحن المسلمين بأن أي موقف لا يوجد فيه خروج عن حدود الله وفيه العدالة النسبية “أي معتمد على البينات المادية” سيؤدي إلى غرضاء الناس ومواقة أكثرية الناس عليه.

وأي موقف يؤدي إلى احتجاج أكثرية الناس عليه فهو موقف غير إسلامي. هذا هو ميزننا الدقيق في {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم 30).

من هذا المنظور نرى أن الأحاديث الثلاثة للنبي صلى الله عليه وسلم إن صحت منسجمة تماما بعضها مع بعض:

1 – “بعثت بالحنيفية السمحة ومن خالف سنتي فليس مني” “الجامع الصغير”.

2 – “اختلاف أمتي رحمة” “الجامع الصغير ج1/12″.

3 – “كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” “ذكره الجامع الصغير”.

هنا نلاحظ كيف أكد النبي صلى الله عليه وسلم على الحنيفية وأنها هي العمود الفقري لرسالته وهي سنته. وهي بالمفهوم الذي طرحناه تحمل مفهوم السماحة وعدم العنت والتحجر، وهي ملة إبراهيم وليست ملة موسى وعيسى لذا قال “كل مولود يولد على الفطرة” حيث أن الحنيفية هي فطرة الإنسان وهي أساس الإسلام وعلق بقوله “فأبواه” وهما أكثر الناس تأثيرا عليه، ثم المجتمع يحولانه من فطرة إسلامية حنيفية إلى عقيدة متزمتة متحجرة حدية عينية لذا قال “يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” ولم يقل أو يجعلانه على ملة إبراهيم علما بأن إبراهيم جاء قبل موسى وعيسى.

أما قول النبي صلى الله عليه وسلم “اختلاف أمتي رحمة” فقد علق عليه البعض بأنه إذا كان الاختلاف رحمة فهذا يعني أن الإجماع نقمة. أقول إن الإجماع نقمة فعلاً. فهل يمكن أن تطبق عقوبة الإخلال بالآداب العامة في باريس مثل عقوبة الإخلال بالآداب العامة في اليمن؟ إن أم الكتاب أعطتنا المجال بأن نطبق تشريعات مختلفة على حالة معينة باختلاف الزمان والمكان، وكل هذه التشريعات إسلامية بحتة.

إن الإجماع بمفهومه الإسلامي الصحيح هو إجماع أكثرية الناس على التشريع المقترح لحالة معينة في زمان ومكان معين، لا الإجماع المطلق الذي لا يحوي بعد الزمان والمكان وهذا ما يسمى بالإجماع الوهمي وهو الذي يطرحه الآن علماء الدين الإسلامي بقولهم “أجمع جمهور العلماء” حيث أن هذا الإجماع ليس أكثر من وهم يطرح على الناس. لأنهم أخذوا آراء الفقهاء في أماكن مختلفا وأزمنة مختلفة وجمعوها وقالوا هذا هو الإجماع الذي يجب أن يتبعه المسلمون في كل زمان ومكان، إلى أن تقوم الساعة، فقتل الإسلام في مهده وتم طرحه في فراغ وفصل عن الحياة بأيديهم ولا يزالون يقاتلون من أجل فصله ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويظنون أن أعداء الإسلام هم الذين يريدون فصله عنا لدولة، علما بأن فصل الإسلام الحقيقي عن الدولة وبالمنظور المطروح في هذا الكتاب فيه استحالة.

هنا أريد أن أنبه إلى ناحية في غاية الأهمية وهي مبدأ الدفاع عن الحدود.

فإذا تجاوز أحد من الناس حدود الله، فإن الله سبحانه وتعالى يدافع عن حدوده لأنه هو الذي وضعها، فإذا تم تجاوز حدود الله من قبل أحد فسيقع ظلم كبير على الناس، في هذه الحالة يجب أن يتأكد الناس بأن الله سبحانه وتعالى لن يترك حدوده مستباحة، وأنه سيتدخل ويكيد لمن يخترق حدوده. أما إذا استبيحت حدود الناس كأن يصدر تشريع إنساني يضع حدودا لضرائب الدخل وفيه ظلم للناس وهو ليس من حدود الله، فعلى الناس أن تعلم أن من مهامها هي حصرا إزالة هذا الظلم والاحتجاج عليه، لا أن تضعه على عاتق الله وتنتظر تدخل الله.

إن الإنسان الذي ينتظر تدخل الله في كل شاردة وواردة في الحدود التي لا تتعلق بحدود الله هو الإنسان المستكين الذي يخضع ويتلاءم مع الأنظمة الديكتاتورية في العالم. فالله يحرس حدوده، والناس تحرس حدودها والله الموفق.

ثالثاً – إسلامية الدولة العربية بالمنظور المعاصر:

إذا سألني سائل: ما هي المواد التي يجب ان يحتويها دستور أية دولة لكي تصبح إسلامية؟ إنني أنوه هنا بالخطأين الشائعين جدا من قبل المسلمين وهما:

أ‌ – المناداة بأن دستور الدولة القرآن، وهذا خطأ لأن القرآن لا يحتوي على أي تشريع.

ب‌ – خطأ المناداة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، لأن الشريعة الإسلامية لا تحتوي على أحكام، بل على حدود، ولا يوجد حكم حدي في الإسلام إلا في حالة الفاحشة العلنية.

فحتى تصبح الدولة العربية المنشودة أو أي دولة إسلامية يجب أن يحتوي دستورها على عقيدة التوحيد، وهذه العقيدة يعبر عنها بما يلي:

1 – إن عقيدة الدولة العربية الإسلامية فيما يتعلق بالوجود هي أن هذا الكون الذي نعيش فيه هو وجود مادي حقيقي مبني على الثنائية بالتناقضات والأزواج والأضداد وعلى تغير الصيرورة “التطور” في الأشياء وفي المجتمعات، والتناقضات الداخلية في المجتمعات تؤدي بالضرورة إلى تغير الشكل وظهور شكل جديد في المجتمع والعلاقات الاجتماعية وفي بنية الدولة. لذا فإن هذه الدولة هي دولة متطورة مبنية على البينات المادية التي يقدمها العلم الموضوعي وعلى العقل، وهذه الدولة لا يمكن أن تزول ولكن تتطور من شكل إلى آخر مادام هذا الكون قائما حتى قيام الساعة (نهاية التاريخ) وهلاك هذا الكون ليقوم على أنقاضه كون جديد خال من المتناقضات، والإنسان يتدخل في تغير الصيرورة إسراعا أو إبطاءا ولكن لا يستطيع أن يلغيها.

لذا فإن البحث العلمي وربط العلم بالحياة ودفع عجلة التطور إلى الأمام هو أحد المبررات الرئيسية لوجود هذه الدولة، في هذه المادة تكمن عقيدة توحيد الربوبية {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص 88). أو ما أطلقنا عليه قانون التسبيح. وأي طرح للعدالة خارج عن هذا القانون هو طرح طوباوي وهمي وإن العدالة لا يمكن أن تكون إلا نسبية مرحلية.

2 – إن التشريع في الدولة العربية الإسلامية ميتي على أنه لا يوجد شيء اسمه الشريعة الإسلامية ولكن يوجد شيء اسمه حدود الله التي وردت في أم الكتاب، والتشريع الإسلامي هو تشريع إنساني ضمن حدود الله، لذا فلا يجوز أن يصدر أي تشريع في هذه الدولة فيه تجاوز لحدود الله وإلا فهو باطل. وصاحب الحق الوحيد في وضع حدود تشريعية دائمة “ثابتة” أ تشريع حدي لا يتغير هو الله وحده. ما كل نص تشريعي حدودي أو حدي يضعه الإنسان فهو بحد ذاته متغير وقابل للإلغاء والحنف عنه ويخضع للعراف ودرجة التطور العلمي والتاريخي للمجتمع، أي للحالات التي تفرزها التناقضات الداخلية للمجتمع وحالات علاقة المجتمع مع غيره من المجتمعات، لذا فيجب أن يضم أي تشريع يصدر في هذه الدولة بندا يحدد مدة صلاحيته ووجوب إعادة النظر فيه.

3 – إن العلاقات الأخلاقية في المجتع العربي الإسلامي مبنية على الفرقان العام “الوصايا”، والدولة ملتزمة بوضع منهاج تربوي للأجيال مبني على الفرقان.

في هذين البندين تكمن عقدية توحيد الألوهية.

4 – إن الدولة العربية الإسلامية تحترم الجد والعمل والكسب والتوفير وطموحات الأفراد والجماعات في كل مجالات الحياة لذا فعلاقتها مع المواطنين لا تقوم على الحقد والحسد، وكذلك علاقة المواطنين بعضهم ببعض.

5 – في الدولة العربية الإسلامية تكفل الدولة للناس ممارسة الحد الأدنى من العبادات بالنسبة للمسلمين وغيرهم، ولا يمكن أن يصدر أي تشريع يمنع الناس من هذه الممارسة، وكذلك لا يمكن أن يصدر أي تشريع يجبر الناس على ممارسة العبادات. وكذلك لا تشجع الدولة أية جهة تحض الناس على ترك العبادات، لأن العبادات ليست موقفا سياسيا أو تشريعيا وبالتالي فإن هذه الدولة تنظر إلى مصطلح الخليفة ورجال الدين والفقهاء والمفتي والإمام على أنها ألقاب تاريخية أفرزها تفاعل الإسلام مع مراحل تاريخية مختلفة للمجتمعات العربية الإسلامية.

6 – بما أن التشريع الإسلامي تشريع حنيف ويحتاج إلى بينات مادية وإجماع أكثرية الناس على التشريع المقترح، لذا فإن الدولة العربية الإسلامية دولة ديموقراطية تقوم بنيتها الأساسية على التعددية الحزبية وحرية التعبير عن الرأي حيث يمكن أن يطرح في هذه الدولة عدة اجتهادات لمشكلة معينة وكلها إسلامية ضمن حدود الله، والمواد المطروحة أعلاه هي ضمان الديموقراطية، وفيها تكمن الأسس المتينة للوحدة الوطنية بحيث أنها تنسجم مع قوانين الطبيعة وفطرة الناس.




  فصل الدين عن الدولة   الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة  الأستاذ الدكتور محمد شحرور







تمهيد في المصطلحات

قال تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر 9).

تصادفنا في المصحف إلى جانب لفظة “الذكر” الألفاظ التالية: “الكتاب” و”القرآن” و”الفرقان”.

فهل هذه الألفاظ كلها تشير إلى معنى واحد لأنها مترادفات؟ أم أنها تشير إلى معان مختلفة؟

وإذا كانت تلك الألفاظ تشير إلى معان متغايرة، فما معنى كل لفظة؟

نبدأ أولاً بتحديد مصطلحي “الكتاب” و”القرآن” ونحدد ثانياً مصطلح “الذكر ثم نبحث ثالثاً في مصطلح “الفرقان”.

أولاً: الكتاب والقرآن

الكتاب من “كتب”، والكتاب في اللسان العربي تعني جمع أشياء بعضها مع بعض لإخراج معنى مفيد، أو لإخراج موضوع ذي معنى متكامل، وعكس كتب من الناحية الصوتية “بتك” ويمكن قلبها بحيث تصبح “بكت” وجاء فعل “بتك” في قوله تعالى {فليبتكن آذان الأنعام} (النساء 119). فالكتاب في المعنى عكس البتك أو البكت.

ونقول مكتب هندسي أي هو مكان تتجمع فيه عناصر إخراج مشروع هندسي من مهندس ورسام وخطاط وآلة سحب، وهي العناصر اللازمة لإخراج مخططات هندسية. ونقول كتيبة في الجيش، كأن نقول كتيبة دبابات أو الخيل بعضها إلى بعض في نسق معين. وعندما نجمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حسب المواضيع، كأن نجمع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حول الصلاة، نسميه كتاباً حيث نقول كتاب الصلاة، وإذا جمعنا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حول الصوم نقول كتاب الصوم.

عندما نسمي فلاناً كاتباً نقصد المواضيع وتأليف الجمل ووضع بعضها مع بعض، وربط أحداث بعضها إلى بعض. وعندما نقول ذلك لا نقصد الخط بتاتاً، وإنما نقصد صياغة الجمل وربطها لإخراج موضوع ما. فإذا أخذنا أربع كلمات وهي “جاء” و”الرجل” و”إلى” و”البيت” وضممناها لنخرج منها معنى مفيداً، تصبح الجملة “جاء الرجل إلى البيت” حيث تأخذ معنى مفيداً يمكن الوقوف عليه. وعندما نقول أصدر رئيس الوزراء كتاباً نقصد به المعنى “الموضوع” لا الخط حيث يجب علينا متابعة القول والإخبار بموضوع الكتاب، وإلا يصبح المعنى ناقصاً، كأن نقول: أصدر رئيس الوزراء كتاباً بشأن كذا وكذا.

وإذا قلنا كلمة كتاب ولم نعطها إضافة لتوضيح الموضوع يصبح المعنى ناقصاً، وعلينا أن نقول كتاب الفيزياء للصف العاشر مثلاً. أي هذا الكتاب يجمع مواضيع فيزيائية بعضها إلى بعض وهي صالحة لطلاب الصف العاشر. وهكذا فعندما نقول الصلاة كتاب فهذا يعني أن الصلاة هي من المواضيع التعبدية التي وجب على المسلم القيام بها {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} (النساء 103). وبما أنه أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم عدة مواضيع مختلفة، كل موضوع منها كتاب، قال: {رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة * فيها كتب قيمة} (البينة 2-3) فمن هذه الكتب القيمة “كتاب الخلق، كتاب الساعة، كتاب الصلاة، كتاب الصوم، كتاب الحج، كتاب المعاملات … الخ” كل هذه المواضيع هي كتب.

وعندما نقول كتاب البصر فهذا يعني أننا ندرس العناصر التي إذا ضم بعضها إلى بعض وفق تتالٍ معين ينتج عن ذلك عملية الإبصار، وهذه العناصر هي الأهداب والجفن والعين والعصب البصري ومركز الإبصار في الدماغ. وإذا أردنا أن ندرس كتاب العين فهذا يعني أننا ندرس البؤبؤ والشبكية وكل عناصر العين. وعندما ندرس كتاب الهضم فهذا يعني أننا ندرس الفم والأسنان، البلعوم، المري، المعدة، الأمعاء الدقيقة، الأمعاء الغليظة، القولون، هذه العناصر التي تدخل في عملية هضم الطعام. وعندما جمع الزمخشري قاموسه “أساس البلاغة” جمع الأصول التي تبدأ بحرف الألف وسماها “كتاب الألف” وجمع الأصول التي تبدأ بحرف الباء وسماها “كتاب الباء”.. وهكذا دواليك.

فأعمال الإنسان كلها كتب: ككتاب المشي، وكتاب النوم، وكتاب الزواج، وعباداته كتب: ككتاب الصلاة والحج والزكاة والصوم، وظواهر الطبيعة كلها كتب ككتاب خلق الكون وكتاب خلق الإنسان، وكتاب الموت وكتاب الحياة، وكتاب النصر، وكتاب الهزيمة، وكتاب الزراعة، وكتاب الأنعام … هذه الكتب لا تعد ولا تحصى.

فكتاب الموت هو مجموعة العناصر التي إذا اجتمعت أدت إلى الموت لا محالة، وكتاب النصر بهو مجموعة العناصر التي إذا اجتمعت حصل النصر، وكتاب خلق الكون هو مجموعة العناصر التي تركب منها خلق الكون. فلا يوجد شيء في أعمال الإنسان وفي ظواهر الطبيعة إلا من خلال الكتب، ولذا قال: {وكل شيء أحصيناه كتابا} (النبأ 29). والإنسانية في نشاطها العلمي تبحث عن هذه الكتب. فعلى الإنسانية أن تدرس أي كتاب لكي تتصرف من خلال عناصر هذا الكتاب.

فإذا أردنا أن تطول الأعمار فعلينا أن ندرس كتاب الموت وكتاب الحياة، وهذا ما يفعله علم الطب حين يدرس الظواهر التي تؤدي إلى الموت “كتاب الموت” والظواهر التي تؤدي إلى نشاط الأعضاء في الإنسان “كتاب الحياة”. وعندما نقول كتاباً ونقف يبقى المعنى ناقصاً حتى نقول كتاب ماذا؟ وعندما قال تعالى: {كتاب أحكمت آياته} (هود 1) فهذا لا يعني كل آيات المصحف وإنما يعني “مجموعة الآيات المحكمات” وعندما قال {كتاباً متشابهاً} (الزمر 23) فإنه لا يعني كل المصحف وإنما يعني “مجموعة آيات متشابهات”، وعندما قال: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} (آل عمران 145) فإنه عنى كتاب الموت، أي مجموعة العناصر التي تؤدي إلى الموت في حال توفرها واجتماعها “الشروط الموضوعية للموت”.

وعليه، فمن الخطأ الفاحش أن نظن عندما ترد كلمة كتاب في المصحف أنها تعني ك المصحف. لأن الآيات الموجودة بين دفتي المصحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس تحتوي على عدة كتب “مواضيع”، وكل كتاب من هذه الكتب يحتوي على عدة كتب: فمثلاً كتاب العبادات يحتوي على كتاب الصلاة وكتاب الصوم وكتاب الزكاة وكتاب الحج. وكتاب الصلاة يحتوي على كتاب الوضوء وكتاب الركوع وكتاب السجود.

أما عندما تأتي كلمة كتاب معرفة بـ أل التعريف “الكتاب” فأصبح معرفاً عندا قال {ذلك الكتاب} في ثاني آية في سورة البقرة بعد {الم} (ذلك الكتاب لا ريب فيه} قالها معرفة ولم يقل: كتاب لا ريب فيه، لأنه لو قالها لوجب تعريف هذا الكتاب. فمجموعة المواضيع التي أوحيت إلى محمد صلى الله عليه وسلم هي مجموعة الكتب التي سميت “الكتاب”، ويؤيد ذلك أن سورة الفاتحة تسمى فاتحة الكتاب.

هذا الكتاب هو مجموعة المواضيع التي أوحيت إلى محمد صلى الله عليه وسلم من الله في النص والمحتوى، والتي تؤلف في مجموعها كل آيات المصحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس. هذا الكتاب يحتوي على مواضيع رئيسية هي:

{الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة 3) (كتاب الغيب).

{ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} (البقرة 3) (كتاب العبادات والسلوك) (سلوك).

أي أن هناك نوعين من الكتب: النوع الأول هو الذي يتعلق بسلوك الإنسان، ككتاب الصلاة الذي يتألف من الوضوء والقيام والركوع والسجود، وهذه الكتب غير مفروضة على الإنسان حتماً، بل له القدرة على اختيار الالتزام بها أو عدم التقيد بها. ويعني ذلك أن الإنسان هو الذي يقضي “يختار” موقفه منها. وأطلق على هذا النوع في المصحف مصطلح “القضاء” والنوع الثاني قوانين الكون وحياة الإنسان ككتاب الموت وكتاب خلق الكون والتطور والساعة والبعث، وهذه الكتب مفروضة على الإنسان حتماً، وليست له القدرة على عدم الخضوع لها. وأطلق على هذا النوع في المصحف مصطلح “القدر”. ويتوجب على الإنسان أن يكتشف هذه القوانين ويتعلمها ليستفيد من معرفته لها.

وبما أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، وهو نبي، فهذا الكتاب يحتوي على رسالته ونبوته. فالرسالة هي مجموعة التعليمات التي يجب على الإنسان التقيد بها “عبادات، معاملات، أخلاق” “الحلال والحرام” وهي مناط التكليف.

والنبوة من “نبأ” هي مجموعة المواضيع التي تحتوي على المعلومات الكونية والتاريخية “الحق والباطل”.

وعليه فالكتاب يحوي كتابين رئيسيين:

الكتاب الأول: كتاب النبوة: ويشتمل على بيان حقيقة الوجود الموضوعي، ويفرق بين الحق والباطل أي الحقيقة والوهم.

الكتاب الثاني: كتاب الرسالة: ويشتمل على قواعد السلوك الإنساني الواعي، ويفرق بين الحلال والحرام.

وقد أوضح في سورة آل عمران أن الكتاب ينقسم إلى موضوعين رئيسيين “كتابين” {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} (آل عمران 7).

1 – الكتاب المحكم أي مجموعة الآيات المحكمات، وقد أعطاها تعريفاً خاصاً بها هو أم الكتاب. {منه آيات محكمات هن أم الكتاب} وبما أن الكتاب هو مصطلح فقد عرف بمجموعة الآيات المحكمات، حيث أن هذا المصطلح جديد على العرب، فالعرب تعرف أم الرأس: “ضربه على أم رأسه” ولكنها لا تعرف أم الكتاب، لذا فقد عرفه لهم، ولمصطلح “أم الكتاب” معنى واحد أينما ورد في الكتاب، أي لا يمكن أن يكون لهذا المصطلح معنى حقيقي وآخر مجازي، بل معناه الوحيد هو ما عرف به، وهو مجموعة الآيات المحكمات. والآيات المحكمات هن مجموعة الأحكام التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تحتوي على قواعد السلوك الإنساني “الحلال والحرام” أي العبادات والمعاملات والأخلاق والتي تشكل رسالته.

2 – وإذا فرزنا مجموعة الآيات المحكمات على حدة، فما تبقى من آيات الكتاب بعد ذلك هو كتابان أيضاً، وهما: الكتاب المتشابه، وكتاب آخر لا محكم ولا متشابه. وهذا الكتاب الآخر يستنتج من قوله تعالى (وأخر متشابهات) حيث لم يقل “والآخر متشابهات” فهذا يعني أن الآيات غير المحكمات فيها متشابهات وفيها آيات من نوع ثالث لا محكم ولا متشابهٍ، وقد أعطى لهذه الآيات مصطلحاً خاصاً بها في سورة يونس، وهو “تفصيل الكتاب” وذلك في قوله: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} (يونس 37). فهذه الآية تدلنا على وجود ثلاثة مواضيع هي:

القرآن.

الذي بين يديه.

تفصيل الكتاب.

وقد أكد أن تفصيل الكتاب موحى أيضاً من الله سبحانه وتعالى في قوله: {وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين}.

فالكتاب بالمتشابه هو كل آيات الكتاب ما عدا آيات الأحكام “الرسالة” وما عدا آيات تفصيل الكتاب. وهذا الكتاب المتشابه هو مجموعة الحقائق التي أعطاها الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتي كانت في معظمها غيبيات أي غائبة عن الوعي الإنساني عند نزول الكتاب والتي تشكل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والتي فرقت بين “الحق والباطل”.

فإذا أخذنا الكتاب المتشابه “أي آيات المصحف ما عدا الأحكام وتفصيل الكتاب” نرى أنها تتألف من كتابين رئيسيين وردا في قوله تعالى {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} (الحجر 87):

الكتاب الأول: سبعاً من المثاني.

الكتاب الثاني: القرآن العظيم.

وميزة هذه الآيات أنها إخبارية ولا يوجد فيها أوامر ونواهٍ، ولكن كلها آيات خبرية “أنباء”. فمثلاً بعد سرد جزء من قصة نوح في سورة هود قال تعالى (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) (هود 49) لاحظ قوله “أنباء” وقوله “غيب”. ولاحظ حين سرد قصة آدم قوله تعالى (قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون} (ص67-68) وقوله {ولتعلمن نبأه بعد حين} (ص 88).

أما مصطلح “الذي بين يديه” فيقصد به الرسالة وسنشرح ذلك فيما يلي:

بينا أن الآيات المتشابهات هن آيات المصحف ما عدا آيات أم الكتاب “الرسالة” وآيات تفصيل الكتاب. ويعني ذلك أنه تبقى مجموعة الآيات المتشابهات، فما اسم هذه الآيات؟

1 – لنرجع إلى قوله تعالى في أول سورة الحجر {الر تلك آيات الكتاب وقرآنٍ مبين} (الحجر 1).

2 – ولنرجع إلى قوله تعالى في أول سورة الرعد {المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} (الرعد 1).

3 – ولنرجع إلى قوله تعالى في أول سورة البقرة {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين} (البقرة 2).

4 – ولنرجع إلى قوله تعالى في سورة البقرة 158 {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان).

هنا نلاحظ كيف عطف القرآن على الكتاب، وفي اللسان العربي لا تعطف إلا المتغايرات، أو الخاص على العام. فهنا لدينا احتمالان:

أ ‌- أن القرآن شيء والكتاب شيء آخر، وعطفهما للتغاير كأن نقول جاء أحمد وسعيد. حيث أن سعيداً شخص وأحمد شخص آخر. وعطفهما للتغاير. فإذا كان القرآن شيئاً والكتاب شيئاً آخر فتجانسهما أنهما من عند الله. ولكن لماذا عطف القرآن على الكتاب في أول سورة الحجر؟ السبب في ذلك هو الآية 87 في هذه السور حيث ذكر فيها السبع المثاني في قوله {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} فها هنا واضح تماماً أن القرآن شيء والسبع من المثاني شيء آخر، وهي ليست من القرآن ولكنها من الكتاب.

ب – أن يكون القرآن جزءاً من الكتاب، وعطفهما من باب عطف الخاص على العام. وفي هذه الحالة يكفي عطف الخاص على العام للتأكيد وللفت انتباه السامع إلى أهمية الخاص.

فأي الاحتمالين هو المقصود؟!

- نلاحظ أنه عندما ذكر الكتاب قال: {هدى للمتقين} لأن في الكتاب أحكام العبادات والمعاملات والأخلاق، أي فيه التقوى بالإضافة إلى القرآن.

وعندما ذكر القرآن قال: {هدى للناس} ولفظة الناس تشمل المتقين وغير المتقين، فالمتقون من الناس ولكن ليس كل الناس من المتقين.

وهذا وحده يوجب أن نميز بين الكتاب والقرآن.

- ونلاحظ أنه في سورة الرعد عطف الحق على الكتاب، فهذا يعني أن الحق شيء والكتاب شيء آخر. أو أن الحق هو جزء من الكتاب وليس كل الكتاب.

- والجواب القاطع على هذا السؤال أعطي في سورة فاطر {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير} (فاطر 31). هنا أعطى الجواب القاطع بأن الحق هو جزء من الكتاب وليس كل الكتاب، وأن الحق جاء معرفاً أي أن الحقيقة الموضوعية بأكملها غير منقوصة “الحقيقة المطلقة” موجودة في الكتاب ولكن ليست كل الكتاب، حيث أنه في الكتاب توجد الآيات المحكمات “آيات الرسالة” وهي ليست حقاً. والآيات المتشابهات “آيات النبوة” وآيات تفصيل الكتاب.

ثم أعطى للحق وظيفة ثانية، وهي تصديق الذي بين يديه. فلماذا جاء القرآن كله متشابهاً؟ وما معنى تصديق الذي بين يديه؟؟

هذا السؤال هو من أخطر الأسئلة التي لا يمكن بدون فهمها فهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن فهم الإعجاز مطلقاً، ولا يمكن فهم كثير من الأحاديث النبوية إن صحت.

إن الله مطلق ومعلوماته مطلقة، وعند الله توجد الحقيقة الموضوعية بشكل مطلق، والله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يعلم نفسه أو يهدي نفسه. وبما أن الناس في فهمهم للحقيقة يحملون طابع النسبية، أي أنهم لا يفهمون إلا حسب الأرضية المعرفية “مستوى المعرفة” الموجودة عندهم، فقد أخذ الله تعالى ذلك بالحسبان لدى إعطاء الناس ما يشاء من علمه.

لنضرب الآن مثالاً على ذلك: إذا رغب إنسان من كبار علماء الإلكترونيات وعمره خمسون عاماً في أن يعطي المعلومات المتوفرة عنده لابنه الذي يبلغ من العمر ثلاثة أعوام، فهناك أمامه طريقتان لا ثالثة لهما للقيام بذلك:

الطريقة الأولى:

أن يعطيه المعلومات بالتدريج حسب السن وحسب الخبرة المكتسبة، فيعطيه جزءاً بحيث يستطيع استيعابه، ثم يعطيه جزءاً آخر.. وهكذا دواليك حتى يعطيه المعلومات كاملة، ولكن هذه الطريقة تتطلب اتصالاً مباشراً دائماً بين الأب وابنه، أي أن الجسر الذي ينقل المعلومات بين الأب وابنه هو الاتصال المباشر والدائم بحيث تزيد المعلومات مع نمو الطفل.

الطريقة الثانية:

أن يعطي الأب العالم مجموعة كاملة من المعلومات الموجودة عنده لابنه وهو في عمر ثلاث سنوات دفعة واحدة، وبدون أن يكون هناك أي اتصال بعد ذلك. وهذا يتطلب بالضرورة أن يصوغ المعلومات بطريقة يفهمهما ابن ثلاث سنوات حسب أرضيته المعرفية. ثم عندما يكبر وتزيد- معلوماته يقرأ هذه الصياغة مرة أخرى فيراها مطابقة لمعلوماته النامية.. وهكذا دواليك، أي مع نمو المعرفة عند هذا الإنسان يقرأ النص الثابت فيرى أنه مطابق لمعلوماته. ولكن هذه الطريقة تتطلب صياغة خاصة يجب أن يتوفر فيها شرطان: الأول ثبات النص والثاني حركة المحتوى وهذا ما يسمى بالتشابه وهو عين التشابه. ولله المثل الأعلى.

فلنر الآن بأي طريقة اتصل بالله بالناس لإعطائهم المعلومات: اتصل بالطريقتين: بالاتصال الدائم بالناس وبالاتصال دفعة واحدة.

أما الاتصال الدائم فقد حصل عبر النبوات قبل محمد صلى الله عليه وسلم كالتوراة والإنجيل. فبعد نزول التوراة كانت هناك رجعة من الله إلى الناس في الإنجيل. وبعد نزول الإنجيل كان هناك رجعة من الله إلى الناس في القرآن. ولكن بعد نزول الكتاب لم تكن هناك رجعة من الله إلى الناس حيث أنه لا نبي ولا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وهكذا نرى أن هناك طريقتين قد استعملتا في نقل المعلومات. ففي الطريقة الأولى أي في التوراة والإنجيل تم نقل المعلومات فيهما بشكل يفهمه الناس حسب أرضيتهم المعرفية. أي أنهما كانا يحملان طابع المرحلية بالشرح، ولذا فعندما نقرأ التوراة الآن ونقارنها مع معلوماتنا الحالية نراها تنسجم مع أرضيتنا المعرفية، أي أنها كانت تحمل طابع المرحلية، وأنها نزلت بصيغة كانت مطابقة لمعارف الناس وقت نزول التوراة. ولم ينتبه المفسرون المسلمون إلى هذه الناحية الخطيرة، فاعتمدوا قليلاً أو كثيراً على التوراة في تفسير القرآن وهنا كانت الطامة الكبرى! وفي عصر النهضة في أوروبا قال العلماء: إن العلم قضى على التفسير التوراتي لخلق الكون والإنسان وعمر الكون والإنسان، وحسناً فعلوا. ولهذا وصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى للناس، ولكن من قبل القرآن {وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدىً للناس} (آل عمران 3-4).

وينطبق الحال كذلك على الإنجيل. إذ أن التوراة لا يحملان صفة التشابه في الصيغة. وهكذا نرى التوراة والإنجيل اليوم كتابين يدرسان فقط في الكنائس للعبادة دون أن يكون لهما علاقة بالحياة. وهذا ما أراد “مشايخنا” أن يفعلوه بالقرآن وذلك بتحويله إلى كتاب في اللاهوت.

أما الطريقة الثانية، وهي طريقة الاتصال دفعة واحدة لا رجعة بعدها فهي الطريقة الإسلامية وهذه لا يمكن أن تكن إلا بثبات النص وحركة المحتوى وهو التشابه الذي يحتاج إلى التأويل باستمرار، ولهذا فالقرآن لا بد من أن يكون قابلاً للتأويل، وتأويله يجب أن يكون متحركاً وفق الأرضية العلمية لأمةٍ ما في عصر ما، على الرغم من ثبات صيغته.

وفي هذا يكمن إعجاز القرآن للناس جميعاً دون استثناء. إن إعجاز القرآن ليس فقط بجماله البلاغي كما يقول بعضهم، وليس معجزاً للعرب وحدهم، وإنما للناس جميعاً. وذلك لأن الناس كلاً بلسانه “الإنكليزي بالإنكليزية والصيني بالصينية والعربي بالعربية و..” عاجزون أن يعطوا نصاً متشابهاً، كل في لسانه الخاص بحيث يبقى النص ثابتاً، ويطابق المحتوى الأرضيات المعرفية المتغيرة والمتطورة للناس مع تطور الزمن إلى أن تقوم الساعة.

إن مثل هذا لا يمكن أن يفعله إلا من يعلم الحقيقة المطلقة وهذا لا يتوفر للناس لأن معرفتهم وعلمهم نسبيان. لذا لا يمكن تأويل القرآن كاملاً من قبل واحد فقط إلا الله. أما الراسخون في العلم فيؤولونه حسب أرضيتهم المعرفية في كل زمان، وكل واحد منهم حسب اختصاصه الضيق.

من هنا نفهم الحقيقة بالكبيرة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤول القرآن، وأن القرآن كان أمانةً تلقاها وأداها للناس دون تأويل، وإنما أعطاهم مفاتيح عامة للفهم.

أما مقولة: “إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادراً على أن يؤول القرآن” فنقول:

1 – إما أن يكون تأويله صحيحاً بالنسبة لمعاصريه فقط، أي التأويل الأول فيكون بذلك قد تسبب في تجميد التأويل، وتجميد حركة العلم والمعرفة، وإلزام الناس بكلامه، ثم تتقدم المعرفة الإنسانية مع الزمن وتظهر العلوم فتبدأ تأويلاته قاصرة، ويكون بذلك قد قصم ظهر الإسلام بنفسه.

2 – وإما أن يكون تأويله صحيحاً بالنسبة لجميع العصور أن النبي كان يستطيع أن يؤول كل آيات القرآن التأويل الصحيح في جميع الأزمان فيكون بهذا قد تسبب بما يلي:

أ – لا يوجد أحد من العرب الذين عاصروه قادر على فهم التأويل.

ب – لو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادراً على التأويل الكامل لكل القرآن لكان ذلك يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كامل المعرفة، ومعرفته بالحقيقة معرفة مطلقة فيصبح شريكاً لله في علمه المطلق.

ج – يفقد القرآن إعجازه.

وفي ضوء هذا يجب أن نفهم ما يلي:

قالت العرب في حجة الوداع للنبي صلى الله عليه وسلم: “نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت” “أخرجه مسلم في صحيحه، انظر جامع الأصول ج3 ص465″ فأما الرسالة فقد بلغها ووضع منهجاً لها في السنة، والرسالة كما بينا أعلاه هي أم الكتاب، وأما الأمانة فقد أداها كما أوحيت إليه وهي النبوة التي تشتمل على القرآن والسبع المثاني وتفصيل الكتاب. وبذا نفهم لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم الحديثين التاليين إن صحا: (ألا إني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه) (انظر جامع الأصول في أحاديث الرسول ج1 ص281) و(أوتيت القرآن ومثله معه)، لقد ظن الكثيرون أن هذين الحديثين بمعنى واحد، ولهذا في نظرنا تفسير آخر: فعندما قال عن الكتاب: ومثله معه قد عنى السنة وعندما قال: القرآن ومثله معه فإنه عنى شيئاً آخر متجانساً مع القرآن أي مثله وهو مجموعة من الحقائق العلمية تساوي القرآن في قيمتها العلمية لذا جاء القرآن معطوفاً عليها وهي “سبع من المثاني” حيث عطف القرآن العظيم عليها في قوله {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} (الحجر 87).

ثانياً: الذكر

ما هو الذكر؟

لنرجع إلى قوله تعالى:

{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر 9).

{وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} (الحجر 6).

{ص والقرآن ذي الذكر} (ص 1).

فإذا أخذنا لفظة الذكر في الآيتين 6-9 في سورة الحجر لوجدنا أنها جاءت معرفة بـ “ال التعريف” وإذا نظرنا إلى لفظة الذكر في الآية رقم 1 في سورة ص لوجدناها أيضاً معرفة بال التعريف. وإذا نظرنا أيضاً إلى الربط بين القرآن والذكر في سورة ص لوجدناهما مربوطين بأداة “ذي” وهذه الأداة تستعمل للدلالة على صفة الشيء، لا على الشيء نفسه كقوله تعالى {وفرعون ذي الأوتاد} (الفجر 10) وقوله {ويسألونك عن ذي القرنين} (الكهف 83) ففرعون شيء والأوتاد شيء آخر، والآية تعني أن فرعون صاحب الأوتاد، وكقوله {أن كان ذا مال وبنين} (القلم 14) أي صاحب مال. فالقرآن هنا هو الموصوف والذكر هو الصفة {والقرآن ذي الذكر} أي القرآن صاحب الذكر. فما هي هذه الصفة الخاصة بالقرآن والتي تسمى “الذكر”؟

إن القرآن مجموعة القوانين الموضوعية الناظمة للوجود ولظواهر الطبيعة والأحداث الإنسانية، وأساسه غير لغوي ثم جعل لغوياً لقوله {إنا جعلناه قرآناً عربياً} (الزخرف 3). وانتقال القرآن إلى صيغة لغوية إنسانية بلسان عربي تم بصيغة منطوقة لذا فهو يتلى بصيغة صوتية منطوقة مسموعة أو غي مسموعة أو غير مسموعة. وهذه هي الصيغة التي أشهر بها القرآن وبها يذكر بين الناس كما جاء في قوله تعالى {ورفعنا لك ذكرك} (الانشراح 4) وقوله {اذكرني عند ربك} (يوسف 42).

فالذكر هو تحول القرآن إلى صيغة لغوية إنسانية منطوقة بلسان عربي، وهذه هي الصيغة التي يذكر بها القرآن. وبما أن هذه الصيغة عربية فقد قال للعرب: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون} (الأنبياء 10) أي صيغته اللغوية الصوتية في اللسان العربي المبين لذا قال: (فيه ذكركم) وهنا جاء أكبر عز للعروبة والقومية العربية. أما بقية الكتاب فقد تلازم الإنزال والتنزيل فيها بدون “جعل” وكان الإنزال عربياً مباشراً. وبما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجنس فهو ليس عربياً ولا تركياً ولا.. ولكن قد جاء النص من الله سبحانه وتعالى أن الإنزال عربي.

فهذه الصيغة للكتاب التي بين أيدينا وهي صيغة عربية هي صيغة محدثة بلسان إنساني وغير قديمة وذلك ليذكر بها القرآن من الناس لذا قال: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون} (الأنبياء 2) لاحظ هنا دقة التعبير في الكتاب عندما قال عن الذكر إنه محدث ولم يقل القرآن، ولا ننسى أن الذكر ليس القرآن نفسه، بل هو أحد صفات القرآن {ص والقرآن ذي الذكر} (ص 1). وهذا الفهم يحل المعضلة الكبرى التي نشأت بين المعتزلة وخصومهم حول خلق القرآن. فإذا عرفنا الآن أن الذكر ليس القرآن نفسه، وإنما هو أحد خواصه وهو صيغته اللسانية حصراً يزول الالتباس. لذا فقد وضع الكتاب شرطاً لفهم آياته بقوله: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (الأنبياء 7) هنا يجب أن نفهم أن أهل الذكر هم أهل اللسان العربي.

هذه الصيغة المحدثة هي التي أخذت الصيغة التعبدية، فعندما يتلو الإنسان الكتاب “بصيغته اللسانية الصوتية”، بغض النظر عن فهم المضمون، تكون تلاوته عبادة تساوي الناس فيها جميعا عرباً أو غير عرب. فإذا وقف في الصلاة مسلمان “عربي وغير عربي” وكلاهما تلا الذكر بغض النظر عن فهم المضمون فصلاتهما مقبولة، لذا قال {وأقم الصلاة لذكري} (طه 14) وعندما قال الفقهاء: إن الصلاة لا تجوز إلا باللسان العربي فهذا صحيح لأن المطلوب في الصلاة التلاوة الصوتية الكتاب لا فهم الكتاب. لذا قيل عن القرآن: إنه المتعبد بتلاوته، فالقرآن يتلى {وأن أتلوا القرآن} (النمل 92).

ومنه يظهر أن التحويل للقرآن “الجعل” إلى صيغة صوتية لغوية عربية قد أخذ الطابع التعبدي، لذا قال عنه {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (القمر 17).

إذاً فصيغة القرآن اللغوية هي الصيغة التعبدية. وكذلك عن صيغة أم الكتاب {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة.. الآية} (فاطر 29) فيصبح الذكر بذلك هو الصيغة اللغوية الصوتية للكتاب كله وهي الصيغة التعبدية ويغدو من الصحيح أن نقول عندما تتلى آيات الكتاب “تتلى آيات الذكر الحكيم”. وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي والذكر هو الصيغة اللغوية للكتاب كله فقد قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل 44) في هذه الآية يوجد إنزال للذكر وتنزيل له.

والإنزال هو بيان التنزيل وهذا البيان “الإنزال هو الصيغة اللغوية بلسان عربي مبين”. وعليه فإن انزال الذكر هو إنزال الكتاب كله “الحكم والقرآن” بصيغة لغوية عربية {وكذلك أنزلناه حكماً عربياً} (يوسف 2) مجتمعين من آيات تفصيل الكتاب والتي هي بالضرورة عربية لأنها تشرح مفردات الكتاب من قرآن وأم الكتاب وتشرح الإنزال والتنزيل. “انظر فصل الإنزال والتنزيل”.

وفي سورة يس الآية 69 قال: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} هنا نلاحظ كيف عطف القرآن على لفظ “ذكر” أي ذكر = عبادة، قرآن = علم “استقراء ومقارنة”. وقد استعمل التنزيل للذكر في قوله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر 9) وذلك لتبيان أن الذكر جاء وحياً مادياً من خارج إدراك محمد صلى الله عليه وسلم أي أنه صيغ خارج وعي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن التنزيل عملية مادية حصلت خارج إدراك محمد صلى الله عليه وسلم ودخلت إدراكه بالإنزال.

وعلينا أن ننوه أن فعل “ذكر” له معان أخرى منها التذكر ضد النسيان كقوله تعالى {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} (الكهف 63) ومنه جاءت الذاكرة والمذاكرة.

ثالثاً: الفرقان

قال تعالى:

{وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} (البقرة 53).

{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان.. الآية} (البقرة 185).

{وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان} (آل عمران 3-4).

{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين} (الأنبياء 48).

{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (الفرقان 1).

{وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} (الأنفال 41).

جاء لفظ الفرقان في ستة مواضع في الكتاب، وفي هذه المواضع الستة جاء معرفاً بأل التعريف، إضافة إلى مرة وحيدة جاء فيها منوناً، وذلك في الآية 29 من سورة الأنفال، فأول ما جاء لفظ “الفرقان” لموسى عليه السلام وجاء معه الكتاب، أي أن الفرقان جاء إلى موسى على حدة وجاء الكتاب على حده، ففرقا عن بعضهما.

وهذا الفرقان قال عنه في سورة آل عمران: إن الفرقان والتوراة والإنجيل أنزلت قبل أن يأتي الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن الفرقان الذي أنزل على موسى هو نفسه الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان} (البقرة 185) وبما أن الفرقان جاء معطوفاً على القرآن يستنتج أن الفرقان غير القرآن، وهو جزء من أم الكتاب “الرسالة” وأنزل ونزل في رمضان. وهذا الجزء أول ما أنزل إلى موسى عليه السلام. فما هو الفرقان الذي جاء إلى موسى على حدة مفروقاً عن الكتاب؟

لو تأملنا الآيات (151-152-153) من سورة الأنعام وهي:

{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم

ألا تشركوا به شيئاً.

وبالوالدين إحساناً.

ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم.

ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} (الأنعام 151).

{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده.

وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها.

وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى.

ويعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} (الأنعام 152).

{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (الأنعام 153).

أقول: لو تأملنا هذه الآيات لم يكن من الصعوبة أن نستنتج أن نستنتج أنها هي الوصايا العشر. ولنلاحظ الآية التي تلت هذه الآيات الثلاث وهي الآية 154 الأنعام:

{ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدىً ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون}. هنا نلاحظ بشكل جلي كيف أن هذه الوصايا جاءت لموسى مفصولة عن الكتاب، وأن الكتاب بالنسبة لموسى وعيسى هو التشريع فقط، وليس التوراة والإنجيل، وذلك واضح تماماً في قوله تعالى عن عيسى: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} (آل عمران 48).

لنقارن هذه الوصايا العشر والتي أتى بعدها {ثم آتينا موسى الكتاب} (الأنعام 154) وقوله تعالى: {وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان} (البقرة 53) بقوله {من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان} (آل عمران 4). أي أنها أنزلت قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وبقوله: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده.. الآية} (الفرقان 1)-أي أنها أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً.. نستنتج أن الفرقان هو الوصايا العشر التي جاءت إلى موسى وثبتت إلى عيسى عليهما السلام ثم جاءت إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وهي رأس الأديان السماوية الثلاثة وسنامها، لأنها القاسم المشترك بين الأديان الثلاثة. وفيها التقوى الاجتماعية وهي ما يسمى بالأخلاق، وليست العبادات، وهي تحمل الطابع الإنساني العام.

ولقد أنزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبما أنها من أم الكتاب فإنها أنزلت ونزلت معاً، ولذا قال {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} (الفرقان 1). ونحن نعلم أن معركة بدر حصلت في رمضان، وأن آيات الفرقان في سورة الأنعام ليست مكيةً، فهنا أخبرنا أن الفرقان أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة بدر “في رمضان” لذا سمي بيوم الفرقان بقوله {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} (الأنفال 41).

لقد ورد في سورة فاتحة الكتاب الآية {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة 4) وحدد هذا الصراط في قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} فمن هؤلاء الذين أنعم عليهم وجاءهم الصراط المستقيم لأول مرة؟

إن الناس الذين أنعم الله عليهم بالصراط المستقيم لأول مرة هم بنو إسرائيل الذين عاصروا موسى. وقد فضلهم الله على العالمين به وذلك في قوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} (البقرة 47) هنا يذكر بني إسرائيل بنعمته التي أنعم عليهم بها والتي فضلهم على العالمين بها، وهذه النعمة وهذا التفضيل هما الصراط المستقيم الذي أنزل لأول مرة في تاريخ الرسالات إلى موسى عليه السلام وذلك في قوله: {ولقد مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم * ونصرناهم فكانوا هم الغالبين * وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم *} (الصافات 114-118). وقد سميت الوصايا الصراط المستقيم لأنها لا تتغير أبداً، حيث أن الأخلاق مبادئ إنسانية عامة وهي من ثوابت الدين الإسلامي ولا تحمل طابع التغير مع الزمن والتطور والمرونة “الحنيفية” مثلها في ذلك مثل العبادات.

وفي الدين الإسلامي الوصايا والحدود والعبادات هي الصراط المستقيم أي التقوى الاجتماعية في الوصايا، والتقوى الفردية في العبادات.

لنلاحظ التسلسل التالي:

{وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} (البقرة 53). بعد الوصايا العشر في سورة الأنعام قال: {ثم آتينا موسى الكتاب} وأن الوصية العاشرة هي اتباع الصراط المستقيم {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه … الآية} (الأنعام 152).

- صراط الذين أنعمت عليهم —> يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم

- ولقد مننا على موسى وهارون —> وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم.

{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} (الأنبياء 48).

وهكذا نرى أن الوصايا العشر هي الفرقان وهي الصراط المستقيم. وكل من اتبع هذا الصراط إلى يوم الدين هو من الذي أنعم الله عليهم وهو من المهتدين. وكل من تركه فقد ضل، وكل من عاداه فقد باء بغضب من الله كائناً من كان، لذا أتبعها بقوله {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. وقد سمى الوصايا الحكمة بالنسبة لعيسى عليه السلام حيث قال {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} (آل عمران 48). فالكتاب هو الرسالة، والحكمة هي الوصايا، والتوراة هو نبوة موسى، والإنجيل هو نبوة عيسى، ومجموعهم هو الكتاب المقدس. وللدلالة على أن الوصايا هي الحكمة ذكر تسعاً من هذه الوصايا في سورة الإسراء من الآية 23 إلى الآية 39 والتي تقول {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة … الآية}.

فالوصايا العشر بالنسبة لعيسى وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم هي جزء من الحكمة حيث ذكر وصايا غيرها في سورة الإسراء، كقوله: {ولا تمش في الأرض مرحاً} (الإسراء 37) ودمجها تحت عنوان الحكمة وكذلك في سورة لقمان بقوله {ولقد آتينا لقمان الحكمة … الآية} (لقمان 12) وبما أن لقمان ليس نبياً ولا رسولاً فقد ذك أن الحكمة “الأخلاق” يمكن أن تأتي لأي شخص في كل زمان ومكان وذلك في قوله: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} (البقرة 269) أما بالنسبة لموسى فقد جاءته الوصايا العشر “الفرقان” وسميت باسمها ولم يقل عن موسى إنه أوتي الحكمة التي تعتبر الوصايا العشر الجزء الأساسي منها وهي من الصراط المستقيم الذي يجب على كل إنسان ومجتمع إنساني أن يتبعها.

وبما أن الوصية الأولى في الفرقان هي التوحيد وقد بعث الله الرسل والأنبياء من أجل التوحيد فعندما ذكر الأنبياء والرسل في سورة الأنعام قال: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة … الآية} (الأنعام 89) قال: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة.. الآية} (الأنعام 89) وقوله {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراطٍ مستقيم} (الأنعام 87) وهنا ذكر عبارة “صراط مستقيم” غير معرفةٍ لأن الصراط لم يأتي بكامله إليهم جميعاً بل أتى جزء منه إليهم كلهم وهو التوحيد على الأقل أي {ألان تشركوا به شيئاً} (الأنعام 151) وإلى شعيب جاء التوحيد “الوصية الأولى” والوفاء بالكيل والميزان “الوصية السابعة”.

وللفرقان نوعان، الأول: الفرقان العام وهو الذي جاء إلى موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. والثاني: الفرقان الخاص الذي جاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم وحده، وهو الذي ذكر في سورة الفرقان “انظر فصل الفرقان”.



الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة

BC1
تقديم المنهج اللغوي في الكتاب بقلم الدكتور جعفر دك الباب المقدمة
الباب الأول: الذكر
تمهيد في المصطلحات 1 – الكتاب والقرآن 2 – الذكر 3 – الفرقان
الفصل الأول: القرآن والسبع المثاني 1 – كلمات الله 2 – محتويات القرآن 3 – القرآن هو الآيات البينات 4 – القرآن هو الكتاب المبارك 5 – أسباب النزول هي للأحكام وتفصيل الكتاب 6 – مصطلح الحديث للقرآن فقط 7 – القصص من القرآن وهي الكتاب المبين 8 – السبع المثاني
الفصل الثاني: النبوة والرسالة 1 – القرآن (النبوة) هو الموضوعي وأم الكتاب (الرسالة) هو الذاتي 2 – أم الكتاب هي رسالة محمد (ص) وقد جاء القرآن تصديقاً لها 3 – تفصيل الكتاب 4 – أم الكتاب هي كتاب الألوهية والقرآن والسبع المثاني كتاب الربوبية 5 – العرب اهتموا بفهم الرسالة فقط 6 – القدر في القرآن والقضاء في أم الكتاب 7 – الكتاب عند موسى وعيسى 8 – النبي محمد (ص) كان أمياً وكان يقرأ ويكتب
الفصل الثالث: الإنزال والتنزيل 1 – الفرق بين الإنزال والتنزيل 2 – الإنزال والتنزيل للقرآن 3 – الإنزال والتنزيل لأم الكتاب وتفصيل الكتاب 4 – الإنزال والتنزيل للملائكة 5 – الإنزال والتنزيل للمن والسلوى 6 – الإنزال والتنزيل لمائدة من السماء
الفصل الرابع: إعجاز القرآن وتأويله 1 – التحذير من كتابة الكتاب والتحدي في القرآن 2 – السحر والمعجزات 3 – القرآن الكريم معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- الخالدة 4 – قواعد التأويل 5 – نموذج من التأويل – تأويل سورة القدر 6 – استنتاجات في الإعجاز القرآني
الفصل الخامس: شجرة الذكر أمثلة على آيات الذكر
الباب الثاني: جدل الكون والإنسان
تمهيد
الفصل الأول: قوانين جدل الكون أولاً: الثنائية التلازمية (جدل هلاك الشيء) ثانياً: الجدل الخارجي (جدل تلاؤم الزوجين) ثالثاً: أقوال في الصور والحساب والجنة والنار
الفصل الثاني: جدل الإنسان والمعرفة الإنسانية تمهيد في جدل الإنسان (الرحمن والشيطان) الفرع الأول: عناصر المعرفة الإنسانية الفرع الثاني: نشأة الإنسان واللغة
الفصل الثالث: نظرية المعرفة القرآنية تمهيد الفرع الأول: جدل الأضداد في معرفة آيات الله (العقل الرحماني والعقل الشيطاني) الفرع الثاني: أنواع المعرفة ونسبيتها الفرع الثالث: الوحي وعلم الله وقضاؤه
الفصل الرابع: الأعمار والأرزاق والأعمال الفرع الأول: الأعمار الفرع الثاني: الأرزاق الفرع الثالث: الأعمال
الباب الثالث: أم الكتاب والسنة والفقه
الفصل الأول: أم الكتاب (الرسالة) تمهيد الفرع الأول: الحدود في التشريع والعبادات الفرع الثاني: الفرقان أو الوصايا العشر (الأخلاق) الفرع الثالث: المعروف والمنكر والتعليمات التي جاءت بقوله (يا أيها النبي)
الفصل الثاني: السنة تمهيد الفرع الأول: سنة الرسالة وسنة النبوة الفرع الثاني: السنة النبوية في العمل الثوري وبناء الدولة الفرع الثالث: جمع الحديث وتدوينه وفهمه
الفصل الثالث: الفقه الإسلامي الفرع الأول: أزمة الفقه الإسلامي الفرع الثاني: فلسفة القضاء الإسلامي والعقوبات الفرع الثالث: نموذج للفقه الجديد في دراسة موضوع المرأة في الإسلام
الباب الرابع: في القرآن
الفصل الأول: الشهوات الإنسانية تمهيد الفرع الأول: الشهوات الإنسانية المذكورة في القرآن الفرع الثاني: أسس النظام الاقتصادي في الإسلام الفرع الثالث: أسس المفاهيم الجمالية في الشهوات الإنسانية
الفصل الثاني: القصص في القرآن تمهيد الفرع الأول: نوح عليه السلام الفرع الثاني: هود عليه السلام الفرع الثالث: الأنبياء والرسل
الخاتمة أولاً: تعريف الإسلام ثانياً: فصل الدين عن الدولة ثالثاً: إسلامية الدول العربية بالمنظور المعاصر رابعاً: أزمة العقل عند العرب خامساً: العروبة والإسلام